يوماً ما تحت أكوام الخراب وخلف هاتيك الأسوار المسيجة بالحديد، والدكاكين المغلقة، كانت هناك حياة. كانت هناك حكايات تروى وقصص نقلها الأجداد للأحفاد، كان هناك يوما ضجيج تلفزيون وضحكات أطفال وساعات تدق كل ذلك قبل أن تصمت الساعات ويختفي كل ما يحمل معنى البشرية.
لا يفهم لم أصبح منزله الصغير الذي يؤوي كل عالمه ذلك الوقت، مكانا يجب تدميره وتسويته بالأرض، لا يفهم كيف أصبح أفراد عائلته بما فيهم والدته وأخته وأخوه الرضيع مجرمين يجب قتلهم أو تشريدهم إلى أرض بعيدة حيث غير مرحب بهم. لا يفهم ما الذي يجعل أرضه التي كان يتغنى بحبها كل صباح في المدرسة مختبرا لتجريب الأسلحة الجديدة وقوة تدميرها. لا يهم مئات الضحايا من فئران التجارب تلك كما يرون، فهم مجرد.. عرب!
برغم كل ضجيج المدافع والصواريخ وبنادق الكلاشينكوف الذي لا يهدأ ولا يسكن ليل نهار فلم يحرك في وجدانه شيئا من الحياة كما كان يفعل ضجيج الماضي، فهو ضجيج ميت حدته تصم الأذان وتحمل في صداه طعم الموت ولكن اسأل أي موت، موت تحت وطأة التعذيب بنار الكراهية التي تكوي الجسد ألما ككيماوي (كيموثيرابي) السرطان.
هرب حافي القدمين بين منازل الحي المدمرة على الأرض الساخنة لا يعرف مم وإلى أين، حتى وجد أمامه مسلحا متشحا بالسواد يحمل بين ذراعيه سلاحا كبير الحجم.
هل هو احتلال؟ لا، فهؤلاء جيران وهؤلاء أبناء عمومة استنجد كل منهم بالغريب على ابن عمه.. وهذان توأمان طعنا بالسكين غدرا قلبا حنونا احتضنهما في لحظات الخوف يوما ما.
رفع عينيه ونظر في وجه الإرهابي، لكن الإرهابي لم يكن له عينين ينظر بهما حتى إلى نفسه ولا عقل ليفكر به في حاله.. فلم يكن له إلا سلاح يرفعه بكل جبن نحو الطفل الذي لم يجد شيئا آخر ليرفع أقوى من كفين صغيرتين ودعوة جبارة اخترقت السماوات السبع فكان أن رفعت أوراق القضية من الأرض لتخترق أبواب السماء بلا حواجز.
كان بينه وبين العالم الآخر ما بحر وحرب وكل ما تصنعه الحروف من حواجز المعاناة والقهر والغربة.
كان الموعد هناك، في بلد غريب حيث ملامح البشر مختلفة عن تلك التي ألفها. هنا لا يوجد مدرسته التي لطخت جدرانها الألوان لتخفي شقوقا صنعها الدهر، ولا أحاديث زملائه حول أدوارهم في لعبة الحرب والجنود أثناء الاستراحة.. لا يعود إلى المنزل فتحرك أحاسيسه روائح الطعام البلدي الذي تعده والدته ولا رائحة الشوكولاتة على الدمى والألعاب القديمة. هنا عالم آخر تماما، عالم يشبه الثلاجة. بارد وجاف قلبا وقالبا، سريع جدا وتحول الضجيج الذي اعتاده إلى صوت الخطوات المستعجلة ونقرات الهاتف والنداءات الأخيرة للحاق بالرحلة.
ذاك هو الضجيج الذي يألفه اللاجئون، على افتراض أنهم هم من يسمعه فقط. نسمع نحن صداه فقط، من بعيد.. نحن لم نسمع أصوات البنادق إلا في الأفلام، ولا صوت الأمواج التي تحيط بنا في كل جانب لتقتلنا إلا اللهم موجات لطيفة تنعشنا في عطلة صيفية.لم نذهب لأقصى بقاع الأرض طلبا للأمان وإنما هربا من الملل. لذا فلوجه الله ثم في سبيل البشرية ليصمت هؤلاء الذين يستجم أولادهم في بحيرات أوروبا وملاهي أميركا عن الحديث باسم اللاجئين وتحريض شباب المسلمين على التوجه لمناطق الصراع فضجيجهم يكفيهم.. ويكفي الدنيا وما فيها».