أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: مِنْ نماذج الفلاسفة الذين عُنُوا بِفَلسفة الحرية (ياسبرز)؛ بحكم اتِّجاهِه الوجوديِّ.. والوجوديةُ مُنْغَلِقةٌ في التَّأصِيلِ للحريَّةِ في مُمارَستِها العمياءِ؛ وفي أول الأمر أجرى (ياسبرز) معادلةً عاقلةً بين الحرية المُمْكِنة والحتميَّاتِ؛ ولكنها خاليةٌ من البواعث المعقولةِ التي تدعو إلى تكوين النفس، ومن القيم التي تجعل حُبَّ المصير معقولاً.. قال الأستاذ (فؤاد كامل): ((ولكنْ ما هي العناصرُ التجريبيةُ التي ينبغي على الوجودي أنْ يَحْمِلَها على كاهِلِه؟.. إنها متعدَّدة ومتباينة [الأفصح بلا واو] إلى ما لا نهاية؛ غير أنَّ يسبرز يُرْجِعها إلى عدد من العناصر الرئيسيَّةِ يُسَمِّيها (المَواقفَ النهائيةَ، أو الْحَدِّيَّة؛ وهي مواقف لا تخلو من تشابُهٍ مع تركيبات (هيدجر) الوجودية؛ وهذه المَواقفُ النهائيةُ تؤدِّي مباشرةً إلى (العلوِّ)؛ لأنَّ الوظيفة الحقيقية لِلْحدِّ النهائي: هو أنْ يُشِيرَ إلى المَاوراء.. والموقفُ النهائيُّ الأولُ هو بلا شكٍّ (الوجودُ في موقفِ)؛ وهذا معناه أنَّ المَواقفَ التي يمكن أنْ نُوْجَدَ فيها متغيِّرةٌ؛ ولكنْ لا بد مِن أنْ نوجدَ دائماً في (موقفٍ ما).. وتأتي بعد ذلك المَواقفُ النهائية الأخرى؛ (وهي الموتُ، والعذاب، والصراع)؛ وهي مواقف لا يمكن أنْ يُفْلِتَ منها إنسانٌ؛ وهكذا تُواجِه (الأنا) مصيراً لا نَستطيع تغيِيْرُه؛ وهذا المَصير فاجِعٌ؛ فهل يتحدَّى هذا الإنسان قَدَره؟.. لن يكونَ هذا التمردُّ على القَدَرِ مجدياً.. هل يستسلم له؟.. في هذا التسليمِ هلاكُه.. ثمةَ سبيلٌ واحد مفتوحٌ أمامَه؛ وهو (حُبُّ المَصيرِ) على حدِّ تعبير (نِيْتْشَهْ).. وباحتمالِ هذه المواقفِ النهائيةِ، والتمسُّكِ بها طَوَاعِيةً واختياراً: تتعالَى عليها الحريةُ، وتتجاوزُها في الوقت نفسِه الذي تحقق فيه ذاتها [أي نفسَ الحريةِ]؛ وهذه هي سمة الوجود الأصيل)).
قال أبو عبدالرحمن: المواقِفُ التي هي في مستطاع الحرية الإنسانية هي نفسُها الأَنِيَّات [جَمْعُ (أنا) على لغتهم]؛ وهي الظَّواهِرُ المكوِّنةُ بعد الله ماهيةَ الإنسان.. وعيبُ فلسفة (ياسبرز) الإشارةُ إلى (موقفٍ ما)!!.. في حين أنَّ الجنونَ الفكري موقفُ، وتعمُّدُ التضليل موقف، والخضوعُ للشهوة البهيمية [يُسمَّى الحقَّ الطبيعي] موقِفٌ؛ فلا بد من تحديد الموقفِ بقيمةٍ؛ لأنَّ هُوِيَّة الفردِ وما هيَّتَه المعتدَّ بها: هي ما يكونُ بها إنساناً؛ ومعنى الإنسانية أنْ تكونَ اهتداءً بالعقل والحسِّ وشريعةِ خالق العقل والحس؛ لتنظيم السلوك والغرائز؛ لأنَّه لا يُعقل وجودُ الإنسان الْمُعْتَدُّ به إلا هكذا منذ بلوغِه الحلم إلى ممارستِه العمل.. والمقياسُ لِنجاحِه أو فشَلُه ما يَظْهَرُ في عمارة الأرض والمجتمع؛ لكونه كما ينبغي أنْ يكونَ عنصراً فاعلاً لا عِبْئاً.. والإلحاحُ على الانتقالِ من موقف إلى موقف كأنه دعوة إلى تحقيق (الديالكتيك الهيجلي) من ظاهرة إلى ظاهرة في صيرورة دائماً.. ولكنه عند ارتطامِ المواقفِ الْحُرَّةِ بالجبريةِ الكونية، وتغلُّبِ القدَرِ الكوني (والله غالب على أمر عبادِه): لا يُشِير إلى أنَّ ملاقاةَ المصير امتدادٌ لصيرورات أخرى؛ بل أَكْتفى بحبِّ المصير، وكلِّ ما أنتجتْه وجوديةُ (ياسبرز)؛ وهي أنَّ صيرورةَ المواقفِ في حياة الفرد تنتهي بالتعالي!!.. كيف وذلك التعالي مجازٌ ادِّعائي؛ وليس فعلاً متعالياً على الحتميات؛ وغايتُه أنَّ الفرد يواجه المصير أو ما يسميه العقلاءُ الأقدارَ المُذهبةَ القوَّةَ العقلية، أو البدنية، أو المنتهية إلى العدم، (وذلك هو حُبُّ المصير الأرعن)؛ لأنَّه حقَّق سِمَة الوجود الأصيل في زعمهم؛ وما أسهل العبث بالوقع ولغته المُفرِّقة بين الأشياء؟!!.. وإلى لقاءٍ في السبتِ القادِم إنْ شاء الله تعالى, والله المُستعانُ.