قبل تلك الفترة بقليل كان قد ظهر الشريط المشهور لسعيد الغامدي الذي قدم قراءة ارتيابية في اتجاه واحد لإنتاج شعراء الحداثة ونقادها تظهرهم على اختلاف كبير مع الموروث الديني. وكان بعض طلاب الجامعة التي كنت أدرس فيها وقتها وخاصة في قسم اللغة العربية يقومون بتوزيع الشريط على طلاب الجامعة وربما بعض أساتذتها.
تحول ذلك الشريط بعد ذلك إلى كتاب من تأليف الشيخ عوض القرني، هو الكتاب الشهير: الحداثة في ميزان الإسلام ( لا يخفى على القارئ الكريم ما يحمله عنوان الكتاب من مشكلة )!! وقدم للكتاب سماحة الشيخ عبدالعزيز ابن باز رحمه الله
( مفتي المملكة آنذاك). وقد بدا واضحا من تقديم الشيخ للكتاب أنه يتبنى بشكل ما, ما ورد في الكتاب: « أخيراً أحمد الله الذي قيض لهؤلاء الحداثيين من كشف أستارهم وبين مقاصدهم وأغراضهم الخبيثة وأهدافهم الخطيرة بهذا الكتاب الذي يقدمه مؤلفه فضيلة الشيخ عوض للقراء، فقد كشف لنا القناع عن عدو سافر يتربص بنا ويعيش بين ظهرانينا ينفث سمومه باسم الحداثة، وهو بهذا الكشف والبيان يلقي مسئولية عظيمة وجسيمة على علماء هذا البلد وقادته ورجاله وشبابه وغيرهم للتصدي لهذا الخطر, وإيقاظ الهمم، وتنبيه الغافل عنه، ونصح وتوجيه الواقع فيه»
و لا شك أن هذا التقديم من قبل أعلى مرجعية دينية في البلد وما بدا من تبنِ الشيخ لمضمون الكتاب قد أعطاه رواجا هائلا ومصداقية كبيرة له لا يظن الكثيرون أنه يرقى إليها بما يرونه ينقص كاتبه من أدوات أدبية ونقدية وجهله الكبير بالأدب السعودي فضلا عن الأدب العربي والعالمي ( ساق أحدهم مثلا على ذلك أن الشيخ عوض القرني حين بدأ بعرض أسماء الأدباء العرب والعالميين الذين أثروا في أدباء الحداثة لدينا، ذكر من بينهم « أوليفر توست « ظنا منه أنه اسم لأديب غربي في حين لم يكن الاسم سوى لرواية للروائي الإنجليزي الشهير تشارلز ديكنز تحمل اسم بطلها !!).
تعرض الكتاب لكثير من أدباء ونقاد الحداثة في المملكة ومن بينهم محمد العلي ومحمد الحربي و المرحوم محمد الثبيتي وعبدالله الصيخان وفوزية أبو خالد وعبدالله الزيد وعبدالله الغذامي وسعد البازعي وسعيد السريحي وغيرهم، وقدم قراءة موجهة لبعض نصوصهم وكتاباتهم، كما شاب الكتاب بعض الخلط في عملية جمعه للأسماء حين تعرض لأشخاص ليس لهم علاقة بالحداثة مثل الكاتب أحمد الشباط!! كما قدم القراءة ذاتها حين تناول بعض الأدباء والشعراء العرب ومنهم محمود درويش وعبدالوهاب البياتي وصلاح عبدالصبور وأمل دنقل ومحمد الماغوط وأحمد عبدالمعطي حجازي ( رحمهم الله) وأدونيس وعبدالعزيز المقالح وغيرهم، وقدم نماذج من شعر بعضهم توقف عند معانيها المباشرة ( مغفلا البعد الرمزي الذي يعبر عنه الأدب عادة ) أو نقلها من التعبير الفني إلى التعبير الواقعي وجعلها وصفا لسلوك هؤلاء في الحياة !!
وكان أقوى من تعرض لهم الكتاب على المستوى المحلي الناقد عبدالله الغذامي الذي سماه الكتاب/ الشريط بجرأة كبيرة (حاخام الحداثة)!! بما يحمل هذا الوصف من دلالات غير مقبولة شعبيا ودينيا. وقد استثمر الشيخ عوض القرني في هذا الكتاب بالطبع بعضا مما كان ينشر في جريدة الندوة خصوصا وأشار هو إلى ذلك.
كذلك قدم الكتاب قراءة لأحد نصوص الشاعر محمد بن جبر الحربي لا يمكن التساهل معها دينيا وتدين الشاعر بشكل كبير!!
لم يقم بالرد على هذا الكتاب - فيما اطلعت عليه - سوى الشاعر المعروف محمد العلي بمقالة حملت عنوان ( قراءة ساخنة في كتاب بارد) ذكر أنه لم يجد من ينشرها في صحفنا المحلية فاضطر لنشرها في جريدة الوطن الكويتية.
كان من أهم ما يلفت النظر في الكتاب تلك الرؤية الثنائية الحادة للعالم،
و(للذات / الآخر) حيث يقع الخير كله في جانب والشر كله في الجانب الآخر!!
وكان الأثر الأخطر لهذا الكتاب أن ساهم في خلق صورة لدى القارئ العادي عن هؤلاء الحداثيين – في بيئة ترتاب أساسا بالمثقف - بأنهم كائنات مختلفة وربما ساقطة دينيا واجتماعيا (حيث بدأت تنتشر الكثير من القصص عن ما يمارسه هؤلاء من سلوك وعن حياتهم الاجتماعية والخاصة مشابه لما حدث لاحقا مع المثقفين بشكل عام ومع من يسمون بالليبراليين في مجتمعنا بشكل خاص ) وأعطى المادة التي استند إليها بعض خطباء المساجد للحديث عن هؤلاء بشكل يعزلهم عن المجتمع ويكفرهم ويسهل أمر استهدافهم بالدعاء عليهم وهو ما سبب تاليا حصارا دينيا واجتماعيا قاسيا لكثير من هؤلاء لم يستطيعوا الخروج منه إلا منذ وقت قريب.
- محمد الدخيل