«لا تهزّني، فأنا مليءٌ بالدّموع»
- هنري كاليه
المسار الكبير الذي كانت قد تشكلت ملامحه المبهجة قبل عشرين عاما يعود لينحسر الآن, يعود للتشكل شوارع صغيرة وموحشة يقام على تقاطعاتها نقاط للحراسة والتفتيش.
وبذات الأدوات التي صنعت هذا المسار الكبير للبشرية، بالأدوات نفسها يتم الآن زرع الالغام ونسف الجسور ووحدها البشرية الخاسر الأكبر.
فقبل عشرين عاما وربما أكثر قليلا دخل قاموس مفرداتنا اليومية مفردة «العولمة» وكانت ترجمة غير دقيقة لكلمة «Globalization» لكن المصطلح ترسخ وهذا ليس الموضوع الآن.
وفي منطقتنا العربية التي عادة تتوجس على الدوام من أي جديد وقفت موقف الرافض أو الحائر أمام هذه المفردة, لكن قطار العولمة لم يكن بحاجة إلى استئذان أحد في العبور والمضي في طريقه الهادر.
وكانت الاتصالات محركه الأول.. وبهذا المحرك عبر الحدود واكتسح السدود وهشم سيادة الدول وجعل العالم كل العالم قرية صغيرة واحدة بل وأنزل الفضاء من الأعالي حتى نكاد نلمسه.
وعرفنا عبر العولمة وطريقها السريع ثقافات لم نكن نعرف وشاهدنا بلادا كانت بعيدة جدا وتقاسمنا مع أهل تلك البلاد وفي ذات اللحظة كل شيء حتى ثورات البراكين والزلازل والحروب وصور القتل والدمار والفرح أيضا.
ولم يعد هناك ما يمكن تسميته: المستحيل.
وكان الفضل في كل هذا لروح العولمة الرئيس: الاتصالات.
الاتصالات وأدوات التواصل بكل أنواعها هي من هدم الجدار وفتح الباب ورسخ كونية الأشياء.
وكان للشركات الكبيرة حضورها وقولها وتوجيها قطار العولمة لمقاصدها ومن أجل مكاسبها.
وتشاطرنا جميعا فواكه هذه العولمة ونعمنا بخيراتها وتواصلنا وتبادلنا الأسرار والحكايات وحتى وصفات المطبخ ودخلنا غرف نوم بعضنا.
لكن أدعياء الشر وقوى الظلام ركبت هي أيضا قطار العولمة مستغلة سهولتها وتسامحها وضعف دفاعاتها ضد الشر الذي لم تكن تدرك.
وكانت وفرة وسهولة الاتصالات هي «كعب أخيل» هذه العولمة ومن خلال استعمالها نفذ جنود الشر «ومن كل الديانات» أجندات القتل والتدمير والسعي إلى خراب العالم.
وكان من الصعوبة وسط هذه الوفرة الهائلة تتبع هؤلاء الأشرار والقضاء عليهم وشل تحركاتهم دون تعريض كامل المنظومة للشل.
ولم يكن للعالم من بد سوى العودة مرة اخرى إلى تشييد الجدران التي كان قد بدأ بهدمها صبيحة سقوط جدار برلين عام 91 والعالم اليوم ماض في هذا الاتجاه.
وها هي بريطانيا العظمى تنسحب من الاتحاد الأوروبي بحثا عن خصوصيتها ودفاعا عن ثقافتها ورغبة في التمع بمزاياها لوحدها رغم الثمن الذي ستدفع.
والمرشح الرئاسي الأمريكي» ترامب» ينادي بعزلة أكبر لأمريكا ويخاطب غرائز ناخبيه من خلال التهويل بقوى الشر الذي يدعي.
وأحزاب اليمين المتطرف في أوروبا كلها تدعو اليوم إلى إقامة الدولة القطرية من أجل حماية خصوصيتها وثقافتها وثرواتها.
وعادت قوى الانفصال تطل برأسها وليتشكل العالم استنادا إلى القوميات والهويات والأديان بحثا عن حماية أكبر وبعد أن اصبحت العولمة تهديدا ولم تعد نعمة.
فهل انتهى الربيع سريعا وهل انتصر الشر؟
لا أحد يمتلك الإجابة لكن ما هو مؤكد أن عطبا قد بدأ وأن الغد مختلف جدا.
- عمرو العامري