يعد تدوين التراث في شتى العلوم والحضارات حفظاً للحضارة والتاريخ من الاندثار تحت غطاء المستقبل المتجدد يوماً بعد يوم، ذلك المستقبل الذي يطالعنا باكتشافات جديدة جعلت من هذا العالم الكبير الواسع يُختزل في قرية صغيرة اسمها العولمة. ولكن التدوين الذي يفترض به أن يكون تاريخاً لنا لا علينا، وفائدة لنا لنتقدم لا عقاباً يجبرنا على التراجع والعودة في زمن يخسر فيه الثابت فكيف بالمتراجع، قد جعلنا منه قيداً نقيّد به معاني النصوص المقدسة التي قد يختلف العلماء في تفسيرها، بل ولم يُجمع العلماء على فهم واحد لها، وهذا ما جعلنا نشعر في كثير من الأحيان بالحصار الشديد لتنميتنا وتقدمنا بسبب انحصارنا في (اجتهادٍ واحد) يحتمل الصواب والخطأ، بينما الآراء الفقهية والتفاسير الشرعية في ذلك الأمر قد جاءت متعددة ومتناسبة مع مختلف الأزمنة!
لقد تسبب تدوين التراث لعلومنا الإسلامية في أزمة فكرية بسبب الانكباب الشديد من الناس وطلاب العلم وحتى بعض العلماء على قراءته واتخاذه مرجعاً دلالياً على التحليل أو التحريم في شتى المسائل، كما أن ذلك التدوين الذي يفترض به أن يجمع كل الأقوال والأفعال ويكون شاهداً على الاختلافات في حقب الزمان المختلفة قد قُدِم في غالب الأحيان على أن هناك إجماعا وليس اختلافا في عدة مسائل ظهر فيها اختلاف العلماء واضحاً وجلياً، كما أنه أظهر نموذجاً واحداً للطرح بينما النماذج في ذلك التاريخ متعددة ومختلفة مما يعني أن التراث لم يكتب التاريخ كله، ولم يطرح إلا ما يناسبه فحسب وليس ما يناسب كافة شرائح الناس بمختلف بيئاتهم وأفكارهم. ويعدُ هذا من الأخطاء الشائعة في كتابة وتدوين التراث أياً كان، حيث إن من ينبري ليكتب ذلك التراث لا بد له أن يكون محايداً وإن مال قلبه، ولا بد أن يحرص على عدم الانحياز لطرح أو قصة دون أخرى لأن انحيازه حتى وإن لم يظهره فسوف يؤثر على طريقته في الكتابة، وهذا ما يظهر في الكثير من تراثنا حيث تلاحظ أن الكتب توجهك وتسوق آراءك التي يفترض أنها ملكك الفكري.
كتب إبراهيم المطرودي في مقاله «كارهو تدوين التراث» ما نصه: «اختار المسلمون أن يُدوّنوا علومهم الدينية بعد أن اختلفوا في ذلك، وجرى التأريخ العلمي لها على شكل، واتجهت العلوم في تكوّنها إلى ضرب، وكان في الإمكان أن تكون الأمور على غير ما هي عليه الآن». وأورد في مقاله ما ذكره ابن حجر في «فتح الباري» حيث قال: «فمما حدث تدوين الحديث ثم تفسير القرآن ثم تدوين المسائل الفقهية المولدة عن الرأي المحض».
وكما ذكرنا أن تدوين المسائل بذكر الرأي المحض فيها يعد إجهاضاً لكافة الآراء المخالفة، التي قد تنم عن علم أوسع وأشمل، واطلاع أكثر تخصصاً وأدق، وفهماً أكثر شمولاً من كل ما جاء من فهم وشروح، وهذا ما جعل ذلك التراث يكون علينا وليس لنا ويقيد حرية النصوص بقيد الرأي الذي اخترناه بأنفسنا!
- عادل الدوسري
aaa-am26@hotmail.com
AaaAm26 @