في الزاوية المنزوية .. تجلس منذ ساعات الصباح الأولى, وعيناها شاخصتان للسقف, لا تكاد تدرك شيئا، ولا تشعر بالوقت، أو تقلبات الطقس .. وبين لحظة وأخرى تنزل دمعةٌ حرّى مرتجفة على خدها المتغضّن, وتنهيدةٌ تمزق صدرها المتعب!
الشجرة الوارفة خارج البيت تظللها، وتحميها من قيظ الأيام الطويلة ،كما لم يفعل أحد ممن أنجبتهم..!
- صباح الخير يا «خالهْ»..
ترفع رأسها ببطء ؛ فالصوت تعرفه جيدا .. إنها الجارة التي تأبى إلا أن تهتمّ بها، -
وتأتي لها بما يسدّ رمقها .. تومئ لها برأسها ؛ فقد فارقها صوتها، ذات يوم، حين تجرّأ ابنها وصرخ في وجهها ليرضي زوجته!
- هل تشعرين بالجوع؟
تحرّك يدها بوهنٍ علامةً على الرفض ..-
- ترغبين في جرعة ماء بارد؟
تومئ لها بالإيجاب .. -
هذا «روتين» صارت معتادة عليه، وهذا الحوار القصير كان يخفف من غربة يومها الطويل ..
بالساعات تجلس متأملة في حياتها كيف كانت, في صغارٍ ما كانت تتأخر في تلبية طلباتهم, ولا تبخل عليهم بالحب ، وتعانقهم كل حين ..
أغمضت عينيها وشردت, منذ متى لم يأتِ أحدهم ليقبّل رأسها؟
منذ متى لم تسمع أحدهم يناديها : ( أمي )؟!
يتحدثون عنها كغريبة دخلت حياتهم ، وشكّلت عبئا عليهم وعلى زوجاتهم :
-لم أعد أحتمل وجودها.. يجب أن تجد لها مكانا آخر!
- لا أستطيع، وأنتِ تعرفين السبب ..
- لا يهمني أن أعرف ..
- إن رحلتْ عن البيت سنفقد «معاش الضمان» الذي نصرفه!
- ضعها في «دار الرعاية»، وسيبقى لنا راتبها ..
- الجيران ماذا سيقولون عنا؟
شجاراتهم حولها تصلها كلَّ ليلة، وهي في غرفتها الكئيبة ..
تسمعهم يتشاورون حول مكان يرسلونها إليه ؛ فقط حتى لا تشتكي الزوجة ..ولكي ينعم الأولاد بحرية أكبر ..!
تمرض وما من أحد يهتمّ بها.. الجارةُ وحدها تفتقدها وتأتي للسؤال.. تمنعها زوجة ابنها من الدخول بحجة أنها نائمة .. تحاول أن تصدر صوتا، لكن صوتها يخونها كما خانها العمر والأولاد..!
تتذكر كيف كانت تسهر الليل حين يئنّ أحدهم، وكيف كان النوم يجافيها إن سعَل؟!
لم يكن بوسعها أن تمنحهم أكثر مما منحت: عمرها، وراحتها, وراتبا تركه زوجها.. وماذا بعد؟
تسأل نفسها...ما الذي قد يريحهم؟
تنفسّت الصعداء، وقد وجدت أخيرا حلا يرضي الجميع, حان الوقت كي تستردّ حريتَها، وتترك لهم مكانها؛ ليملؤوه بما شاؤوا ، كما شاؤوا ..
استيقظوا صباحا ولم يهتمّ أحد منهم بالاطمئنان عليها.. لم يعرفوا أن كل ما بقي منها في الغرفة المنزوية كان جسدا، سيسهل عليهم التخلص منه بدفنه..
في المقابر البعيدة
- عبدالله بن سنكر
binsunkr @