فيصل أكرم
واللهِ لم أعرفْ سوى نفسي
ولقد جهلتُ الكلَّ حتّاها
فمعرفتي بها ارتبكتْ بآخرها
وكأنني أخطأتُ أُولاها
لم أستطع رأياً أقوله، أو أعرف كيف أقوله، غير هذا.. حول ما يجري من حولنا الآن؛ ففي اليوم الواحد تدور أحداثٌ لا تجعلك تعيد النظر في الأشياء من حولك فقط، بل تعيد النظر في نفسك، وحتى في نظرك نفسه! نحاول أن نتجنب كل شيء ونخلو مع الشعر والأدب والفن، فنجد أن الشعر والأدب والفن لم يعد يتجنب أيٌّ منهم أيّاً من كل شيء.. فقد اختلطت الأشياء ببعضها، وهذا طبيعي حين ينجم عن هذا الاختلاط خلاصة إبداعية.. غير أن اللا طبيعي أبداً، هو أن حصيلة اختلاط الأشياء ببعضها تكون مرتبكة لدرجة أنها لم تعد صالحة للاستعمال الإبداعي مطلقاً.
في مسلسل تلفزيوني عربي، يقول البطل للبطلة متودداً لها طالباً الصفح منها عن خطيئة ارتكبها في حقها: (كوني مثل هيلاري كلينتون، مرنة، ومتسامحة حتى مع خيانة زوجها لها واعترافه بخيانتها أمام العالم كله!) فترد عليه البطلة: (أنا لا أفهم في السياسة ولا أحب السياسيين ولا ألاعيبهم) ليأتيها جوابه ببداهة: (اليوم كل الناس تفهم في السياسة أكثر من سفراء بلدانهم، انظري حولك، الناس كلها تلعب سياسة)!
طبعاً هذا المسلسل يعتبر من مسلسلات الدرجة الثانية، بدليل أنه لم يعرض إلا بعد انتهاء الموسم الرمضاني، ولكن الحوار هنا كان يتطابق مع الواقع تماماً، فلا أحد اليوم لا يحسب نفسه من الفاهمين في السياسة، ليس أكثر من السفراء وحسب، بل أكثر حتى من رؤساء الدول العظمى.. فهذا حوار آخر دار بين شابين كانا يجلسان بالقرب مني في أحد المطاعم، قال أحدهما: (يا أخي أنا في حياتي كلها ما رأيت أغبى من الرئيس الروسي بوتين) فرد عليه الآخر: (إلا والله الأغبى منه ترامب المرشح للرئاسة الأمريكية)!
هنا أصابني ما يشبه الدوار، لا أدري تفاؤلاً كان أم تشاؤماً، فدخلتُ في غابة من التأملات محورها سؤالان لا ثالث لهما: هل هذان الشابان أذكى من فلاديمير بوتين الداهية الذي أرغم بوريس يلتسن على التنحي وجلس مكانه، وأذكى من الداهية الآخر دونالد ترامب الذي حقق ثروة تضاهي ميزانيات دول بأكملها من دون أن يحرم نفسه من هواياته النزقة؟ أم أن الشابين مجرد لسانين اعتادا على استغباء الآخر وادّعاء أن الذكاء ليس من نصيب أحد غيرهما؟
لم يكن جوابي عن السؤالين إلا واحداً: (لا أعرف). فنحن الآن في زمن غير كل الأزمان، وفي كل يوم نفاجأ بأشياء لم يكن أحدٌ يتوقعها، وليس لي من سبيل أخرج به أو إليه من متاهة التأمل والسؤال حول أشياء (لا أعرفها) سوى الشعر، ليس جديده وإنما الأقدم.. فهنا مطلع قصيدة عنوانها (إنها الدنيا عيون) وقّعتها في العام 1999 حين كنتُ أحسبُ نفسي (أعرف) وكان الشعرُ أدرى مني بنفسي:
اقبضْ على الأوتارِ
أو هُز أصابعَ هدّها التهذيبُ، غنِّ
وقِفْ على ريحٍ تمدُّ لسانها
في وجه من سرقوكَ صوتكْ.
اقبض على الأسرارِ
أو خذ يديكَ إلى المفازةِ والغبارِ
هناكَ كُن.. وإذا تعودُ
فاشطفْ حياتكَ، اكشفْ جراحكَ
انثرْ ضِمادكَ، أو رَمادكَ، في الشواطئِ
قبلَ أن تصطادَ موتكْ.
اقبض على سفرٍ سيجري
وامتحن درباً، ستعرفُ أنه
في ضفّتيهِ أضعتَ وقتكْ.