ياسر حجازي
1
قبل عقدين كان عنوان زاوية مقالي: «على طريق المعنى» ولم أكن حينها قد أنهيت صراعات في ذهني تدور حول القيمة والجدوى والمعنى، ومآزق المعنى، وفتنة المعنى حين تكون نار الصراع والوهم الأكبر الذي يقضي على راحة الإنسان. وفي المقابل: هل كُتب على الإنسان الراحة حتى يكون الوهم عدوّاً؟ ولم أكن حينها قد وصلت إلى ما أنشره اليوم في الكثير من الموضوعات حول ضرورة تخفيف المعاني لتخفيف محفّزات تعقيد أيّ صراعٍ يسعى بطبيعته إلى حلّ. ذلك أن صراعات الملكيات -وهو الصراع المادي الطبيعي- تحمل بطبيعة مادية أخرى ما يجعلها تمضي باتجاه تسوية أو تصفية أو ترضية/ تمضي إلى حلّ في دوراتها الوجودية لتحويل الصراع إلى أشياء أخرى وهكذا دواليك. بينما تغليف الصراع بمعانٍ من خارجه / بمعان ثقافية أو معان دينية فإنّ الصراع يفقد بوصلته في إيجاد الحلول المادية، ويتحول إلى صراع مقفل عقيم، يشبه صراع دونكيشوت، غير أن المصارع في هذه الحالة هما طرفان وليس طرفاً واحداً، طرفان كلاهما يصارعان أشباحاً وطواحين هواء.
وحكاية المعنى وأوهامه قريبة من قسمة العدد واحد على عدد ما، فكلما زاد العدد المقسوم عليه تضاءل وجود الواحد حتى حدّ التلاشي، حتى يكاد لا يبين. وهذا مآخذ إنساني على أي دعوات شمولية، أنها في شموليتها ومشاعيتها أفقدت الإنسان وجوده كيف كان معنى وجوده، تابعاً له هو- أي معنى خاص به / واحد على شخص واحد، أو معانٍ متعدّد ومتناقضة ونابعة من شخص واحد، بينما الشمولية المادية والدينية يبرز مأزقها وعنفها أنها أرادت لمعنى خاص واحد أن يكون مقسوماً ومرتبطاً بالكل/ فتلاشى المعنى وأذاب معه الأفراد ومعانيهم الخاصة بهم المتعددة والمتقلبة كيفما كانت وتحت أي شروط.
2
يقولون: «إن الجيوش تزحف على بطونها»، والمقصدُ أنّ إطعام الجندي تأتي على رأس الأولويات العسكرية، فلا نفع أو حسم لأي تقدّم عسكري إذا كان جنديك جائعاً؛ وهذا المثل يبيّن الواقعية بأبسط صورة لها ويغلب أوهام المعنى، إن كانت أوهاماً ثقافية أو مادية، فإن الطعام هنا يغلب المعنى الثقافي والتكنولوجي أيضا. والثقافة والتفسيرات الدينية لا يمكن لهما بنصوصهما منفردين أن يغذيا أيّ صراع إذا لم يكن هناك تمويل مالي (إطعام) وهدف متمثل بالواقع، وبعيد عن المعاني التي يدعيها داعي الصراع الثقافي أو الديني، فالصراع على الواقع والتمويل المالي هما القادران والمسؤولان الرئيسان عن أي صراع ولا يمكن نكران ذلك في قراءة حروب التاريخ حتى الدينية منها، فإن لها تمويلا ماديا وهدفا ماديا.
صراع الحضارات على خلفية دينية أو معانٍ ثقافية محض تزوير لحقيقة الصراع المادي على ملكية الأشياء: الواقع، الأرض، النفوذ، الثروات، السلطة، القوة؛ وجميعها خالية من المعاني التي يصدرها حامل أوهام المعنى والمتاجر بالمعاني، وجميعها هي النار التي تقود قطار الحروب، ولا شأن للأخلاق والديانات والثقافات بهذه الدماء إذا لم يكن هناك من يستغلها تزويراً ووقاحة وغلوا باسم الديّن أو باسم ثقافة شعب أو نيابة عنه. هذا ما تفعله أوهام المعنى حينما تحرّض الناس وتأخذهم إلى صراعات تحت معانٍ دينية بينما هي تخفي أطماعاً مادية لا يمكن نكرانها، ولا يمكن لصراع أن يستمرّ إنْ لم يجد له ممول مالي وليس ممولا معنويا ثقافيا.
3
فقدان المعاني لا يسلب الإنسان معناه الذي يتوهّمه ويمدّه بما شاء من أمل، بل لعلّ تخفيف المعاني أو إخضاعها لدورة تحوّل يجعل المرء يفتّش عن معانٍ لم تكن في خيالاته ويتنازل عن معانٍ كانت سبباً في تعاسته أو مصدراً لتصادمه مع غيره.
- عليك أن تتكيّيف مع العالم المنفتح على بعضه بالقليل من المعاني، فهي الطريقة الأكثر سلامة في تنفّس هواء هذا العالم دون اختناق في ازدحامه وتضارب معانيه.