د. حمزة السالم
لا زلت أذكر بوضوح ليلة دخول العراقيين الخفجي، في حرب الخليج، مساء يوم الثلاثاء. فقد كان هناك هجوم وهمي بمدفعية العدو على مركز حدودي غرب الخفجي بنحو عشرين كيلو متراً، يُدعى رغوة إن لم أنس. وقد كانت الخفجي هادئة كما هي دائماَ، إلا أن قادة السرايا الأمامية، واسم أحدهم «ضبيب» كانوا يبلغون عن اختراق المدرعات العراقية للحدود السعودية ودخولها الخفجي، دون أي محاولة اشتباك معهم. وقد كان ضبيب مُغتاظاً من أوامر عدم إطلاق النار أو الاشتباك مع المدرعات العراقية الغازية. وهو نفس موقف الغيظ الذي وقفته مغيب شمس يوم الخميس، طلبت ثم استجديت إلحاحاً رماية المدفعية على شريط مدرعات عراقية يبعد عني سبعة كيلو مترات، قد جاء بخبره «بن حجاب» عيننا الأمامية. فوجدت رتل المدرعات قد امتد سبعة عشر كيلو متراً على طول الحدود الكويتية، استعداداً لدخول الخفجي لتعزيز القوات العراقية التي دخلتها مساء الثلاثاء.
مُنع الرائد ضبيب من الاشتباك مع المدرعات الغازية حفاظاً عليه وعلى حياة جنوده فلا تُهدر سدى. فليس لقواته الاستطلاعية طاقة لصد الهجوم العراقي، والخفجي مدينة مواجهة قد تم إخلاؤها بعد أن حُسب عسكرياً سقوطها، في أي مغامرة إعلامية قد يقوم بها الجيش العراقي لرفع معنويات جنوده. ولم يستجيب لي جرمان، وبن لافي ضابط توجيه النيران وقائد المدفعية المتواجدة حينها، حفاظاً علينا وعلى المدفعية التي وراءنا، من قصف العدو المعاكس. فقد كانت عنده معلومات عن أسراب الطائرات التي كانت تشق طريقها، لتقذفهم بحُمم نيران عانقت ألستنها السماء، فمحتهم عن بكرة أبيهم. فلما أصبحت، ما وجدت منهم من أحد، إلاّ قلة تائهة نجت من جحيم البارحة، يلعنون صداماً ومغامراته الإعلامية.
والخفجي ليست بأبعد عن الحدود الكويتية من بُعدِ بعض مدننا الجنوبية عن الحدود اليمنية. فالخفجي كانت إحدى مدن المواجهة في حرب الخليج، كما كانت السويس والإسماعيلية وبور سعيد مدن مواجهة في حرب الاستنزاف بين مصر وإسرائيل. كما هي اليوم نجران وظهران الجنوب وغيرها مدن مواجهة.
ومدن المواجهة وقرى خط المواجهة من أولى استراتيجيات الخطة العسكرية العليا، وقد كان الرئيس المصري السادات يتناقش مع قادته حول أدق تفاصيل التعامل والإجراءات في مدن المواجهة. فتوفير الحماية الكاملة لمدن المواجهة في الحرب الحديثة، أمر مُتعذّر. فالرياض وهي من أبعد ما تكون عن خط المواجهة ورغم دفاعات سكود، لم تسلم من صواريخ صدام الغادرة. والإخلاء عادة هو الحل العسكري الأمثل نظرياً، كما حدث مع الخفجي، وكما هو يحدث اليوم في بعض القرى في المواجهة الحدودية. ولكنه ليس هو الحل الممكن تطبيقياً دائماً كمدن كالسويس والإسماعيلية وبور سعيد، أثناء حرب الاستنزاف. وإن كان أحياناً يُضطر إلى الإخلاء، عند اقتراب النصر. كما اضطر الحلفاء، في الحربين الأولى والثانية، إخلاء عشرات المدن الأوربية المهمة، بعد أن ظهر نصرهم على الألمان. فإخلاء المدن يكون ضمن خطط النصر لا الهزيمة، فالمنهزم لا يخطط إلا لإنقاذ نفسه كما فعل الجيش العراقي المُنهزم في الكويت، والألمان في أوربا.
فهجوم العدو على مدن المواجهة هي استراتيجية اليائس، المحطمة معنويات جنده والمحصور في الجحور. والذي لم يعد عنده ما يخشى على ضياعه، تماماً كما فعل الهالك صدام في حماقة دخول الخفجي. فليس هناك أي هدف عسكري للطاغية الهالك من وراء احتلال الخفجي، إلا المغامرة بدماء جيشه والاستخفاف بالإعلام التهريجي. وكذلك ليس للحوثيين المجرمين من هدف عسكري في ضرب المدن الآمنة.
فيا أهلنا في مدن المواجهة، فلأنتم والله أغلى عند بن سعود وأهم من ضبيب وبن سالم وبن حجاب، فقد كنا من العسكر، وواجب العسكر خوض غمار الموت. فلم ترخص دماؤنا على بن سعود، كما رخصت دماء العراقيين عند الطاغية. وما كان صبره على سقوط الخفجي إلا ليجعلها مقبرة للمعتدين، فلا تعيقه وتشغله عن هدفه الأسمى بالنصر الكبير.
فيا أهلنا في مدن المواجهة، ما طال حلم بن سعود من غفلة عن معاناتكم ومعاناة جيشنا، وإنما غيرة على دمائكم ودماء جيشنا وشفقة على دماء أهل اليمن، من حسم دموي للمعارك. فاستراتيجية خنق المتمردين الحوتيين قد أخذ وقتاً، فهم في نزعهم الأخير يرفسون. ونزع الخنق مؤلم، فأصابكم منه مصاب فاصبروا. وقد يشتد النزع عليهم فيركلون، فأسمعوا وأطيعوا لأوامر الإخلاء إن صدرت، فهي بشائر النصر إن أتت. ففي الحروب تُورى المقاصد، كما وُوريت عن ضبيب وبن سالم، فلا تظنوا في بن سعود إلاّ خيراً، فو الله لا يظن هو السعوديين جميعاً بكم إلاّ خيراً. واصبروا على المصاب إن وقع، وعلى الأمد إن طال، فهذا قدركم، فالأرض أرضكم والديار ديار آبائكم وأجدادكم. وسيصبر السعوديون على شكر صبركم، كما شكر أجدادكم صبر بن سعود ومن معه من السعوديين على مصابهم وآلامهم في حروب توحيد البلاد. فهذه سنّة حياة الأشراف، «فليس الكريم على القنا بمحرم»، وهي سنّة أصحاب رسولنا من قبل، فملّكهم الله الأرض وتيجانها حين وعوا وفهموا قول ربهم: {وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}.