خالد بن حمد المالك
كنا معاً، أنا طفل صغير أعي ما حولي، وهي شابة في كامل حيويتها تدخل بيت الزوجية قادمة من قريتها الصغيرة الوادعة، إلى تلك المدينة الصغيرة، وإلى البيت الكبير، بناسه وكرمه وأبوة والدي، وعاطفة زوجها أخي صالح بن حمد المالك، حيث الأجواء غير ما اعتادت عليه، فهي الآن مع زوج يمثّل مستقبلها، وفي بيت هو مقصد الناس بين آت وغاد، حيث السخاء والجود والكرم، وحيث يعرف عنه بأنه مضياف على مدار اليوم، وأنه وجهة للجميع، فهنا الشيخ الكبير، والباب المفتوح، والنار الموقدة التي تتقد على الدوام.
* *
هكذا أتذكر وأنا الطفل الصغير فأستعيد من ذاكرتي تلك الفترة الذهبية التي اقترن فيها أخي ومن هو بمكان والدي بالسيدة الفاضلة نورة بنت سالم الجعيب زوجة له، وأماً فيما بعد لعدد من أولاده وبناته، فيما هي الآن تودّع الدنيا إلى ما هو أرحب، إلى عالم آخر، إلى رب غفور رحيم، مصحوبة بالدعاء ممن عرفها، وسبر غور محبتها للناس، وعاطفتها نحو الجميع، وصلاحها على امتداد ثمانين عاماً قضتها في طاعة الله، والبحث عن رضاه، وإحياء أيامها بالذكر الحسن، والعمل الصالح، والنأي بالنفس عن كل ما يسيء إلى ذلك.
* *
ماتت أم منصور، الوالدة الحبيبة التي أحسنت مع زوجها تريبة أولادها وبناتها، وهيأتهم للتفوق تعليمياً وعملياً، وقامت بكل مسؤولياتها أماً وزوجة, وربة بيت، بشكل أظهر لكل من كان قريباً منها حقيقة معدنها الطيّب في أسلوب التربية والمحافظة على القيم والنبل بالرؤية الحسنة في جميع تعاملاتها، ما لا يتوفر إلا لمن هو في مثل حالها، وفي مستوى وعيها وإدراكها.
* *
هي هكذا نورة بنت سالم الجعيب، كما أعرف عنها، وقد ضمّنا سقف البيت الواحد لسنوات، وجمعتنا الحياة على الدوام فيما بعد، رفيقة وصديقة لوالدتي، يجمعهما الحب والوئام وكل ما هو محبب إلى النفس، فلم أرهما إلا كشقيقتين، لا ينقطع التواصل بينهما، ولا يغيب السؤال المتبادل فيما بينهما عن الصحة والأحوال، في أجواء عائلية عامرة بالود، وفي مناخات ترطب لمثل هذا النوع من العلاقات الحميمية المتميزة.
* *
وبقلب أبيض، وذات عاطفة دون أن تكون عاطفة عمياء، كانت أم منصور امرأة ودودة، وأماً مركبة، أي أكثر من أم، ومربية بامتياز، وتلك بعض ما رسخ في ذهني من انطباعات عنها، قبل أن تفرّقنا الحياة من البيت الواحد، وتبعدنا من اللقاءات المتواصلة، في زحمة أعمال ومستجدات حياة على نحو ما شهده مجتمعنا خلال نصف قرن مضى من أعمارنا.
* *
لقد صدمني خبر وفاتها، لكن هذه إرادة الله، وأشعر بحزن كبير كما هو حزن زوجها أخي صالح، وكما هو تأثر وحزن أبنائها وبناتها وإخوانها وشقيقتها الوحيدة، ومثلما شعر بذلك كل أفراد أسرتي، فهي امرأة مسالمة، نقية، ذات قلب طيب، وعاطفة جياشة، تشعر بإنسانيتها وحبها للخير كلما استمعت إلى كلماتها، أو رأيت موقفاً لها دالاً على عاطفتها، أو حدّثك أحدهم عن تصرف حكيم صدر عنها، فلها منا الدعاء بالرحمة والغفران، ولزوجها أخي صالح وأولادها وبناتها وإخوانها وشقيقتها، ولنا جميعاً في أسرتنا حسن العزاء، والأجر العظيم، والصبر على المكروه.