ياسر صالح البهيجان
التشكلات السلوكيّة لظاهرة «الإرهاب» تبدو أكثر ذكاءً مما سبق، أشبه بحالات القرصنة المتصارعة ضد أي نظام حماية مستحدث، وكل محاولة لتطوير نظام جديد يقاوم قوّة الاختراق، ينتج عنه بالضرورة تطوير مضاد يساويه في القوّة لكنه يعاكسه في الاتجاه.
«الإرهاب» بشقّه الدموي المتمثّل بالجماعات الإرهابيّة بات متكشفاً ويخضع لرقابة الأجهزة الأمنيّة بصرامة، ما أبطل قدرته على السير في الظلام، وذلك الصنف من الأيديولوجيات المتطرّفة لا يمكنه الحياة تحت الأضواء الكاشفة لأنها تفسد قدرته على الاستدراج والتغرير، وهما سمتان رئيستان لأي مشروع فكري مناهض للمشاريع الوطنيّة المتأسسة على العقلانيّة في فهم الواقع، والمرسّخة لمبدأ التعايش السلمي داخل الوطن الواحد.
لذا اتجهت الذهنيّة الإرهابيّة إلى نمط آخر من الإرهاب، يتخذ من حريّة التعبير وتعدديّة وجهات النظر ميداناً له، مستفيداً من اتساع مفهوم دلالة النصّ والقدرة على تحويره ليواري أنساقه الهدّامة عن مشارح الرصد الأمني، ويمارس قبحيّاته لتصنيف أفراد المجتمع تحت مسمّيات حزبيّة أو انتماءات غير وطنيّة، لخلق حالة من العداء المجتمعي في محاولة منه لتأسيس أرضيّة متوترة قابلة للتأجيج في مرحلة مقبلة، ويمنحه البعد الزمني غير الآني إمكانيّة أحداث الشرخ دون أن تواجهه أسلحة المقاومة.
والحقيقة أن حالة الاستقرار الأمني في المملكة ليست محلّ ترحيب من دول أظهرت عداءها للمنطقة العربيّة والبلدان الخليجيّة تحديداً، لذا ليس من المنطقيّ تبرئتها من تهمة الضلوع في تغذية سلوك الإرهاب اللفظي المُمارس في شبكات التواصل الاجتماعي أو بعض وسائل الإعلام المموّلة من أطراف خارجيّة بعد أن فشلت في توظيف أذيالها وخلاياها النائمة لتفكيك المجتمعات وجرّها نحو الاقتتال تمهيداً لبسط نفوذها التدريجي في المنطقة.
والأيديولوجيات المتطرّفة تضاعف خطرها عندما تمكّنت المشاريع الاستعماريّة من الاندماج معها وتوظيفها لمصالحها السياسيّة، وهو ما فرض الاتجاه نحو حلول وقائيّة مستدامة تخاطب عقول الشعوب العربيّة بوساطة وسائل الإعلام الوطنيّة والنخبة الاجتماعيّة المؤثّرة ليس لكشف المآلات المتوقعّة في حال هيمنة الفكر المتطرّف فحسب، بل لتعرية الحيل الاستراتيجيّة المنفّذة حالياً والتي يُراد منها تهيئة الظروف الملائمة لتحولات دمويّة قد تحدث في المستقبل.
التحولات في منظومة الفكر الإرهابي زادت من أعباء المؤسسات الأمنيّة، لذا لم تعد محاربة الإرهاب من اختصاص رجال الأمن فقط. كافّة الجهات التي تُعنى بالمجتمع ثقافة وسلوكاً هي الأخرى مسؤولة ما دمنا نتناول ظاهرة متطرّفة تنشأ أولاً في الفكر قبل أن تتحوّل إلى عمل إجراميّ، مع يقيننا بأن التطرّف ظاهرة أزليّة لم تخلُ حقبة تاريخيّة من وجوده، لكننا رغم ذلك نمتلك الأدوات المعرفيّة للحد من انتشاره ومقاومته سلمياً قبل أن نتجه إلى وأده بالسلاح.