علي الصراف
لم يسبق للانتخابات الرئاسية الأمريكية أن عرفت مرشحاً خاضها ليخسرها مثلما يفعل دونالد ترامب.
فالفشل يتعاظم، إلى درجة أن هناك من يقول إن على ترامب أن يقبله كإفلاس سياسي، من جانب رجل لا علاقة له بالسياسة أصلاً. بمعنى أنه لن يفتقد الكثير.
الأمر لا يتعلق بموقف العشرات من كبار قادة الحزب الجمهوري وكبار مسؤولي الإدارات الجمهورية السابقة الذين لم يجتمعوا على رفض مرشح لحزبهم مثلما يجتمعون اليوم على القول إنه «لا يصلح للرئاسة».
كما أن الأمر لا يتعلق بزلات لسانه المتكررة، ولا غروره غير المعتاد، ولا بتحامله على النساء، والأقليات، والمسلمين، والمهاجرين، والأطفال. كما أنه لا يتعلق بتجاوزاته «المقرفة» (على حد وصف الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند)، ولا أسلوبه الفض في التعبير عن آرائه، ولا غرامه المعلن بالرئيس فلاديمير بوتين، ولا دعوته للمخابرات الروسية للتلصص على البريد الإلكتروني لمنافسته، مما يُنظر إليه على أنه تهديد مباشر للأمن القومي، ولا جهله بالشؤون الدولية وبالتزامات الولايات المتحدة حيال شركائها، ولا بتصوره السطحي لطبيعة التعقيدات المتعلقة بالتجارة الدولية.
لا يتعلق الأمر بسجله الضرائبي الغامض، ولا بالحرب التي يشنها كبار المليارديرات الأمريكيين ضده، ولا باستعدادهم لدفع كل ثمن ممكن للإطاحة به، ولا بإعلان العديد من كبار الشخصيات في الحزب الجمهوري عن دعمهم، الذي يحصل للمرة الأولى، لمرشح الحزب الآخر.
لا يتعلق الأمر أيضاً، بعجزه المحتمل عن تنفيذ وعوده بسبب طابعها غير العملي، ولا بالصدمات التي يعرضها على العلاقات مع دول العالم الأخرى، ولا بالانعزالية الفجة التي تنطوي على الكثير من الابتزاز للآخرين، ولا بالضيق المكشوف لكل زعماء العالم من كلامه الذي لا يتلاءم مع أبسط قواعد الدبلوماسية.
لا يتعلق الأمر أيضاً وأيضاً بعدم انسجام فظاظته مع الديمقراطية الحديثة التي لا تفتح الأبواب لشخصيات تمثل انعطافات حادة أو خيارات متطرفة، لا من جهة اليمين ولا من جهة اليسار.
أنه يتعلق بأمر آخر، أبسط من كل هذا بكثير. هو أن الولايات المتحدة لا تمر بأزمة اقتصادية ولا تعوزها الثقة بالنفس، وديمقراطيتها أنضج من أن تكون ضحية «لغة» صاخبة وخطاب غير مطبوخ.
«شعبويون» مثل ترامب كان يمكن أن ينفذوا إلى السلطة من شبّاك أزمات حادة، لكي يتطابق تطرفها مع تطرفهم، في أي بلد غربي آخر، إنما في الثلاثينات أو الأربعينات من القرن الماضي.
إنها مسألة فرق توقيت، ومسألة نضج.
قد يكتشف ترامب أن إفلاسه السياسي المبكر، لن يكلفه شيئاً، إذا حسبها بحساب المال. كما أن عالم السياسة لن يشعر به إذا غاب. وهو لن يشعر بأي فرق إذا صحا من نومه غداً ووجد نفسه يخوض سباقاً آخر.
ولكن، إذا صادف وشعر بالحاجة لمعرفة سبب هزيمته المبكرة، فإنه قد يجد فائدة في أن يفهم لماذا انتخب الأمريكيون بيل كلينتون في العام 1993، عندما كانت البلاد على مشارف أزمة. يومها قال للرئيس جورج بوش الأب الذي تباهى بحربه ضد العراق: «إنه الاقتصاد، يا غبي». بمعنى، إنك تضع عينك على مكان، بينما القضية في مكان آخر.
ولعل ترامب سيجد فائدة في أن يفهم لماذا انتخب الأمريكيون باراك أوباما عندما مرت بهم أزمة عاصفة، بدلاً من أي شعبوي أصابته تلك الأزمة بالهستيريا. بل إن شعبوياً كهذا لم يظهر أصلاً. ذلك أن الديمقراطيات المعاصرة لم تعد تتحمل يميناً متشدداً، كما أنها لا تتحمل يساراً متشدداً أيضاً، ولا لغة غير مطبوخة من أي أحد.
إذا كانت هناك أزمة، فإن البديل الحديث هو الاعتدال، لا التطرف؛ التعقل، لا الصخب. ذلك هو الدرس.
بعد هذا لن يكون صعباً على ترامب أن يفهم لماذا حاق الفشل بخطابه النيّء: إنه النضج، يا...