«الجزيرة» - المحليات:
أظهرت الاكتشافات الأثرية الأخيرة في وسط الجزيرة العربية التي تمت من خلال فرق سعودية ودولية متخصصة بإشراف الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني حضارات تعود إلى أكثر من 9000 سنة كانت تعيش في هذه المنطقة.
وأكدت هذه الاكتشافات، أن المملكة العربية السعودية غنية بمقوماتها الحضارية التي تضرب في جذورها مراحل موغلة في القدم، وأن ما تم كشفه من مواقع أثرية يدل على العمق الحضاري والتاريخي للمملكة وتأثيرها وتأثرها بمجريات الأحداث التاريخية التي تجري من حولها.
أول استئناس للخيل
يعد موقع المقر «جنوب محافظة وادي الدواسر» من أبرز المواقع التي عثر فيها على اكتشافات أثرية هامة.
حيث عثر الفريق الاستكشافي التابع للهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني على مكتشفات أثرية لحضارة قديمة يتجاوز عمرها 9000 سنة قبل الميلاد، اكتشف فيها بقايا آدمية ومجسمات لحيوانات وأوان صناعية وتماثيل كبيرة الحجم للخيل في هذا الموقع مقترنة بمواد أثرية من العصر الحجري الحديث.
وشكل هذا الحدث اكتشافاً أثرياً مهماً على المستوى العالمي، حيث إن آخر الدراسات حول استئناس الخيل تشير إلى حدوث هذا الاستئناس لأول مرة في أواسط آسيا (كازاخستان) منذ 5500 سنة قبل الوقت الحاضر. وهذا الاكتشاف يؤكد أن استئناس الخيل تم على الأراضي السعودية في قلب الجزيرة العربية قبل هذا التاريخ بزمن طويل.
وأظهرت المعثورات الأثرية للموقع عمق الاستيطان البشري إبان العصر الحجري الحديث ومدى تفاعل الإِنسان مع معطيات بيئته الطبيعية، مما يعطي تصوراً واضحاً عن طبيعة الحياة البشرية في هذا الموقع ودرجة الرقي والتقدم التي وصل إليها المجتمع خلال هذه الفترة.
وعثر الفريق الاستكشافي التابع للهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني بالموقع على أشكال لحيوانات متعددة استأنسها الإِنسان الذي عاش في هذا الموقع، واستخدم بعضها الآخر في نشاطاته وحياته اليومية، ومن هذه الحيوانات: الضأن والماعز والنعام، والكلب السلوقي، والصقر، والسمك والخيل.
وذكر الدكتور علي الغبان نائب رئيس الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني المشرف العام على برنامج خادم الحرمين الشريفين للعناية بالتراث الحضاري أن الموقع يشكل أهمية استراتيجية للمملكة، خصوصاً أنه يمثل حضارة إِنسانية متقدمة جداً من فترة العصر الحجري الحديث شهدتها المنطقة قبل تسعة آلاف عام، وهذه الحضارة تعد ثورة حقيقية في معرفة الإِنسان ومدنيته وتطور مهاراته الحرفية، وقد اتضحت في هذا الموقع السمات الحضارية التي تميز العصر الحجري الحديث والمتمثلة في الزراعة والصناعة واستئناس الحيوانات والاستقرار. وأضاف: «في هذا الموقع تمثلت أربعة رموزٍ مهمة من رموز الثقافة العربية الأصيلة التي يعتز بها الإِنسان العربي ويقدرها حتى عصرنا الحاضر، وهي: الفروسية، والصيد بالصقور، واقتناء كلاب الصيد (السلوقي)، واقتناء والتزين بالخنجر العربي، موضحاً أن المكتشفات تدل على غنى الموقع وأهميته الحضارية، وأهمها مجسمات الخيل التي تمثل اكتشافاً أثرياً مهماً على مستوى العالم، حيث إن آخر الدراسات حول استئناس الخيل تشير إلى حدوث هذا الاستئناس لأول مرة في أواسط آسيا (كازاخستان) منذ (5500) سنة قبل الوقت الحاضر، وهذا الاكتشاف يؤكد أن استئناس الخيل تم على الأراضي السعودية في قلب الجزيرة العربية قبل هذا التاريخ بزمن طويل.
وذكر أن أحد مجسمات الخيل المكتشفة في الموقع يبلغ طوله (100 سم)، وهو يمثل الرقبة والصدر، ولم يعثر من قبل على مجسمات حيوانات بهذا الحجم في أي موقع آخر في العالم من هذه الفترة نفسها، وما عثر عليه في تركيا والأردن وسوريا لا يعدو أن يكون مجسمات صغيرة الحجم، ومن فترة متأخرة عن هذا التاريخ، وليست للخيل.
ولفت الغبان إلى أنه يوجد بالموقع حصن كبير الحجم مبني بالحجارة فوق تكوين جبلي يشرف على الموقع من جهة الشرق، ويوجد بداخل هذا الحصن حجرات مربعة ووحدات بنائية متعددة، كما استخدمت بعض الكهوف المجاورة لحصن الموقع مقابر لسكان الموقع في تلك الفترة، حيث عثر في بعضها على هياكل عظمية بشرية مدفونة، وبعضها مغطى بطبقة من الطين والقش، في أسلوب أشبه بالتحنيط، يجعل الهيكل العظمي متماسكاً، ويعد ذلك رقياً كبيراً في أساليب دفن الموتى.
وأشار إلى أنه تنتشر على سطح الموقع العديد من الأدوات الأثرية المتنوعة، مثل الأدوات الحجرية التي تشمل السهام والمكاشط دقيقة الصنع، ومجسمات لحيوانات متعددة استأنسها الإِنسان، مثل الضأن والماعز والنعام، والكلب السلوقي، والصقر، والسمك، والخيل، إضافة إلى خنجر مصنوع من الحجر له شكل الخنجر العربي الذي يستخدم اليوم في الجزيرة العربية، وثقالات تستخدم في أنوال النسيج، وبكرات للغزل والنسيج، وأدوات حجرية لمعالجة الجلود.
وأضاف: «توجد على الصخور المجاورة للموقع رسوم صخرية من فترة سكنى الموقع، رسمت فيها بالحز صور وعول ونعام وحيوانات أخرى، وأشكال آدمية، كما تعرض إحداها صورة فارس على صهوة جواد، وأخرى لصيد الوعول بالكلاب السلوقية، حيث تحيط خمسة من الكلاب بوعل في شكل دائرة. وهذه الرسوم الصخرية اكتسبت طبقة عتق داكنة جداً وقريبة من اللون الأسود لتقدم تاريخها، مما يؤكد أنها نفذت خلال فترة استخدام الموقع، كما وجدت رسوم صخرية أخرى لخيول وأشكال آدمية على ألواح حجرية بين أنقاض المبنى الرئيس الذي يتوسط الموقع». وذكر أن المواد الأثرية التي جمعت من سطح الموقع يزيد عددها على الثمانين قطعة، وهي تشير إلى حضارة إِنسانية متقدمة جداً من فترة العصر الحجري الحديث شهدتها هذه المنطقة قبل تسعة آلاف سنة، وأن هذه الحضارة تعد ثورة حقيقة في معرفة الإِنسان ومدنيته وتطور مهاراته الحرفية، وكاستنتاج أولي، يتوقع انتشار هذه الحضارة - التي أطلقنا عليها مسمى حضارة المقر نسبة إلى اسم المكان التي وجدت فيه - نتوقع انتشارها داخل وخارج الجزيرة العربية وهو أمر سوف تكشف عنه الدراسات والأعمال الميدانية المستقبلية، والدراسات المقارنة مع المواقع الأخرى داخل الجزيرة العربية وخارجها.
مشيرا إلى أنه سيتم إجراء المزيد من الأبحاث والدراسات في الموقع، ويتوقع أن تضيف معلومات على قدر كبير من الأهمية عن تاريخ حضارة المقر، ومدى تأثيرها في السلم الحضاري للمملكة خصوصاً، والجزيرة العربية عموماً.
حضارات قبل 5000 عام في الخرج
وفي محافظة الخرج عثرت البعثة السعودية الفرنسية المشتركة للتنقيب الأثري على عدد من مواقع العصر الحجري القديم، وهي المرة الأولى التي تكتشف فيها مواقع من فترة العصر الحجري القديم في محافظة الخرج، والتي ربما يعود تاريخها لأكثر من مائة ألف عام وذلك في جبال الشديدة، إضافة إلى مواقع العصر الحجري القديم الأعلى. وتم العثور في الموقع على كسر الأواني الفخارية العادية والمزججة، باللون الأخضر الغامق والأخضر العشبي، ومجموعة من كسر الأساور المصنوعة من عجينة الزجاج والمطعمة بعجائن ذات ألوان أخرى مثل الأصفر والأحمر والأزرق، إضافة إلى كسر قليلة من أواني الحجر الصابوني الرمادي التي يبدو أنها أجزاء من مسارج وأوانٍ صغيرة. وتدل مجموعة الأواني الفخارية على فترة استيطان من الفترة العباسية، وربما أنها تمثل فترة أواخر ما قبل الإسلام وحتى القرن الخامس الهجري.
وتم العثور أيضاً على آثار تعود إلى الفترة الإسلامية المبكرة تتمثل في كميات من كسر الأواني الفخارية، وكسر الفخار المزججة، إضافة إلى مجموعة من كسر الأساور المصنوعة من عجينة الزجاج.
وفي موقع عين الضلع الذي يقع في الجهة الغربية من واحة الخرج تم العثور على آثار سكنى بشري يقدر عمرها بحوالي 5000 عام، وحديد يعود إلى بداية الألفية الأولى قبل الميلاد، كما تم العثور على سيف من البرونز يبلغ طوله 56 سم.
وفي الجبال المطلة على وادي ماوان، وعين فرزان، والجبال المطلة على بلدة الشديدة حيث تم الكشف عن مواقع تعود للعصر الحجري القديم في محافظة الخرج يعود تاريخها إلى مئة ألف عام تقريباً وهي المرة الأولى التي تكتشف فيها مواقع من فترة العصر الحجري القديم في محافظة الخرج، إضافة إلى مواقع تعود إلى العصر الحجري القديم الأعلى. وقامت البعثة في مجال المسح الأثري بمسح مستوطنة البنَة (الخِضرمة) ومستوطنة حزم عقيلة إلى الشرق من موقع البنَة، وخط القنوات من عين فرزان حتى السلمية، وتبيّن من المسح وجود عدد من المزارع القديمة ومنشآتها المعمارية يعود تاريخها إلى القرن الخامس الهجري. وكانت البعثة التي تضم 18 عضوا من العلماء والمتخصصين السعوديين والفرنسيين في مجال التنقيب الأثري، قد اكتشفت في موقع اليمامة بالخرج الذي يتبع للهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني على آثار معمارية لمسجد ضخم يعود إلى الفترة الإسلامية المبكرة، بداية من القرن الأول إلى القرن الخامس الهجري، له ثلاثة أروقة مسقوفة ومحرابان وصحن مكشوف ضخم، وهو مسجد كبير تدل المؤشرات على أنه قد يكون الأكبر في الجزيرة العربية بعد الحرمين الشريفين في تلك العصور.
مواقع من العصر الحجري
القديم في الدوادمي
وفي الدوادمي عثرت البعثة السعودية - البريطانية المشتركة مؤخرا على مواقع عديدة ترجع إلى العصر الحجري القديم بتفرعاته مما يعطي تسلسلا زمنيا موثقا للمنطقة في هذه الحقبة، منها مواقع ترجع إلى العصر الحجري القديم المبكر حيث عثر بها على فؤوس حجرية أشولية، وكذلك مواقع ترجع إلى العصر الحجري القديم المتوسط وهو العصر الأكثر تمثيلاً في جبة (75000 ق.م) كموقع «كتار» الذي ضم أدوات حجرية موستيرية كالشظايا والنوى الحجرية بتقنية اللفلواز والسكاكين، كما يضم هذا الموقع محجرا لصناعة الأدوات الحجرية الخام.
كما تمّ الكشف عن مواقع تضم أدوات حجرية تنتمي للعصر الحجري القديم الأوسط والتي تعد من أكبر تجمعات للمواقع في هذا العصر في المملكة، وكذلك مواقع تنتمي للعصر الحجري الحديث.
مكتشفات في الغاط لأدوات تؤرخ بـ120.000 سنة
وفي محافظة الغاط كشفت البعثة السعودية - البلجيكية عن أدوات حجرية من العصر الحجري القديم والعصر الحجري القديم الأوسط (الموستيري) التي تؤرخ بـ 120.000 سنة مضت، وكذلك أدوات حجرية من العصر الحجري الحديث. كما تم الكشف عن عدد من النقوش الثمودية والرسوم الصخرية من جبل مرخ وجبل السمراء، وتم الكشف في موقع الشعيبة خلف القرية التراثية عن قبر مغطى باللبن يرجع إلى الفترة الإسلامية. وقامت الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني بعمل مسح أثري للمحافظة عام 1420هـ، استكملته بموسم آخر عام 1431هـ / 2010م، وتم من خلالها تسجيل وتوثيق العديد من الآثار في مواقع النقوش والرسوم الصخرية التي ترجع إلى ما قبل التاريخ والتي تعبر ببساطة عن حياة الإِنسان وبيئته المحيط هبه آنئذ، وتم تسجيلها بموقعين في هضبة وادي مرخ، وأم شداد. إضافة إلى الدوائر والركامات والمذيلات الحجرية وهي مدافن لإِنسان ما قبل التاريخ أو أنها علامات طرق ومصادر مياه أو أنها ذات دلالات عقدية في فترة ما بعد العصر الحجري ما بين الألف الثالث والأول قبل الميلاد، وتم تسجيلها بمواقع الحطيئة ومريزق والقويرة وأبا العش والسقطة وخشم طمير وخشم القويرة والحسكي وخشم الفوية وخشم النغرة وأعلى غدير مشعل. وكذلك الشظايا الحجرية وهي مشذبة الأطراف وتستعمل كأدوات قطع أو كشط ونحوها وتدل ملتقطات محافظة الغاط من هذا النوع على رجوعها للعصر الحجري القديم الأوسط (الموستري) وعثر عليها في مواقع غرب حطابة وادي مرخ وغرب أم شداد.
والمأوى الصخرية والآبار وعثر على نماذجها في حصاة عضيدان وبئر المنيزلية والحطيئة، والجواد (الدروب الجبلية) وهي التي يسلكها الناس ودوابهم عبر المرتفعات للرعي والتجارة ومن مواقعها الجادة وشرق بيضاء نثيل وباعج والشدوديات، وفي بعضها تدخل الإِنسان بتسهيل ورصف أجزاء من تلك الجواد.