د. فهد صالح عبدالله السلطان
المتتبع لما يجري على الساحة الاقتصادية وفي ميدان السباق التقني يدرك أننا أمام تحولات وتغيرات تكنولوجية جذرية ستؤثر بشكل خطير على التنمية الاقتصادية وميدان الأعمال بشكل عام وعلى هيكل الوظائف وفرص العمل على وجه الخصوص. الذي يهمنا هنا هو التغير المتعلق بمحور التوظيف والعمل. ذاك لأن البطالة مرض متعد وليس لازما وهي رحم الأمراض الاجتماعية والاقتصادية وغيرها... الخ.
نحن أمام ثورة صناعية شرسة. هذه الثورة تختلف جذريا عن الثورات الصناعية التي سبقتها كلها. بل ربما تختلف في كنهتها وطبيعتها عن طبيعة التاريخ الصناعي كله. هناك أعمال كثيرة قد تصل إلى 30 في المائة مما هو موجود حاليا سوف تولد وتظهر في المستقبل.
وفي المقابل فإن نسبة كبيرة من الأعمال القائمة حاليا ستختفي خلال العشرين سنة المقبلة قد تصل إلى 70 في المائة مما هو موجود حاليا من الوظائف حسب توقعات الخبراء. كثير من الأعمال والخدمات التي تقدم حاليا بمقابل سيتمكن الإنسان مستقبلا من الحصول عليها بدون مقابل. وقد بدأت هذه الظاهرة بالفعل. فهناك أعمال كثيرة نحصل عليها في هذه الأيام بدون مقابل (كالبريد والرسائل والصور والفيديو والمعلومات الصحية والتجارية. نشتري بضاعة من أقصى بقاع الأرض وتصل إلينا بسعر يقل من السعر الذي تعرضه المحلات التجارية في الحي الذي نسكن فيه. ونحصل على خدمات مختلفة من أقصى بقاع الأرض تختلف من حيث السعر والجودة عما يعرض لدينا. لم نعد نحتاج إلى مكاتب السياحة ولا إلى مكاتب الحجوزات والخدمات، لم نعد بحاجة إلى الخروج للتسوق أو حتى إلى المطاعم وغيرها، تقلصت الحاجة إلى المصمم أو المبرمج المحلي واتسع نطاق الخدمات عن بعد الذي يقدم من أفراد اقل تكلفة وربما أعلى جودة). إنه الذكاء الاصطناعي الذي سيلغي وظائف وأعمالا عديدة تعتبر مصدر رزق للقائمين بها حاليا، ويقلل من أهمية الأخرى بما فيها الأعمال المتعلقة بالصحة التي تعتبر في وقتنا الحاضر أكثر الأعمال توفيرا لفرص العمل.. ستتضاءل أهمية العقارات المعدة للتجارة والعرض بسبب رحابة الفضاء.
سنتخاطب ونتحاور ونبيع ونشتري في الفضاء الرحب (من خلال النت) رغم أننا نقيم على الأرض. لن يعود المنتجون والبائعون بحاجة إلى القرب من المستهلك والمنافسة على العقارات في شارع الحي وإنما سينتجون ويبيعون ويشترون عن بعد.
البرامج التقنية والإلكترونية ستحد من قيمة كثير من الأعمال التي نمارسها ونكسب عيشنا من خلالها حاليا. وسيؤدي ذلك إلى أن يخسر الكثير منا أعمالهم الحالية. إنه الذكاء الصناعي، مفيد ولكنه مدمر في ذات الوقت.
وفي المقابل ستتوافر أعمالا جديدة وسيدخل إلى سوق العمل فرصا عملية عديدة، ولكن ستحظى وتفوز بها المجتمعات المتحضرة التي تستشرف المستقبل وتقرأه جيدا وتعد له العدة.
هذا هو الاقتصاد الخلاق وهذه هي بيئة العمل الجديدة التي تستوعب المبدعين وتنتج الإبداع وتخلق الفرص.
ولأن قضية البطالة تمثل الهم الوطني الأول الذي يجب أن تدور في فلكه معظم برامج التنمية الوطنية، ولأهمية التركيز في برامج توطين القوى العاملة على الحلول العملية البعيدة عن التنظير والمعالجات الشكلية، فإن موضوع التوظيف والحد من البطالة يجب أن يحتل أولى أولوياتنا التنموية. في تقديري أن الحلول الحالية غير كافية للتعامل مع حجم المعضلة وحدتها ومع مستجدات العصر وتحدياته ومتطلباته.
إذا كنا في الوقت الحاضر نعاني من مشكلة البطالة فإن التحدي في قادم الأيام سيكون أقسى وتبعاته أعتى نظرا لأننا سنفقد كثيرا من فرص العمل بسبب التطورات التقنية المتسارعة. وبسبب الفساد الذي لا يكتفي باستنزاف مدخراتنا فقط ولكن يكرس الإبقاء على أداء الأعمال بأسلوب تقليدي لتترعرع فيه أشجار الفساد الخبيثة.
أن نعي خطورة الأمر فهذا شيء جيد، ولكن الأهم أن نعمل بشكل عملي وحازم وسريع على معالجة هذا التحدي الكبير والخطير في ذات الوقت.
في الخميس المقبل سنستعرض إن شاء الله الوظائف والأعمال التي يتوقع أن تختفي خلال العشرين سنة المقبلة.