د.محمد بن سعد الشويعر
واستكمالاً لما تحدثنا عنه في الأسبوع الماضي، من القسم الأول في مقالنا هذا، فقد جاء في الحكمة: إنما الميت ميت الأحياء، ولتدرك قيمة الوقت، فإن المخلص الصادق يوزعه في العبادة، سواء كانت بدنية أو لسانية، وراحة لبدنه مع أهله وذوي قرابته وعمله الذي يدر عليه، وعمر بن الخطاب رأى رجلاً متبتلاً، دائماً في صلاته، فقال له: من ينفق عليك؟ قال:أخي الذي يعمل وينفق عليّ وعلى أهله. فقال له عمر: أخوك أعبد منك، فيجب أن يوزع وقته، ويتجنب ما فيه من ضرر وعدم نفع، ولا بأس بالمزاح الذي يريح القلب والبدن، إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يمازح أصحابه، وحكاية نعيمان معه عليه الصلاة والسلام، ومع عثمان بن عفان معروفة في كتب النوادر.
إذ من نوادره أنه غرّر بأعرابي، فبال في مسجد رسول الله، فقام إليه الصحابة، يزجرونه ويشنعون عليه فعلته، فأومأ إليهم رسول الله أن دعوه حتى أكمل بوله، ثم دعا بذنوب من ماء فأهريق عليه، وبهذه الحادثة أخذ الصحابة ومن بعدهم، أحكاماً عديدة، منها حكم شرعي بسماحة الإسلام، وطهارة المسجد بهذا العمل البسيط، دون حاجة إلى جهد كبير في تطهير المكان، ولعله يتاح فرصة نعطي بها طرفاً من النوادر، إذ لما كانت النفس لها قيمة وشأن عظيم؛ لأنها ملك لله، فقد نهى الله عن قتلها، وامتحن الله قوماً من بني إسرائيل بذلك، إلا أن أعداء الإسلام اتخذوها سلاحاً، تباعد المسلمين عن دينهم، فسلطوا عليهم: ما يخامر العقل، ويقتل النفوس بالمسكرات، والمخدرات والإسراف في التدخين وغير هذا مما يضر بالبدن، ويفتك به حسب النشرات الطبية والإحصائيات الرقمية، علاوة على ما يحدثون من جرائم عديدة، تتسبب بهذه الموبقات، صحياً واجتماعياً وخلقياً.
فبالتهاون بها يكثر ارتكاب المحرمات، كالسرقة والقتل والزنا واللواط، وهتك الحرمات، وإخافة المجتمع واختلال الأمن، والخوف وغير ذلك، مما يسبب أمراضاً اجتماعية وبدنية لم تعرف عند من سلف من القرون - كما أخبر بذلك الصادق عليه الصلاة والسلام، ولا شك أن القلق في المجتمع جزء من تلك المصائب، ومن هنا إن دين الإسلام مثلما يطلق بعضهم: بأنه دين ودنيا، {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} (77) سورة القصص. فهذا في أمور الدنيا: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} (77) سورة القصص. وهذا في أمور الدين أيضاً.
ولذا، نرى علماء الإسلام، تمر أيامهم: ساعة للدين وساعة للدنيا، وقد أخذوا بجانب ما يريح النفوس، إلى جانب الجد إذ نرى في تراثهم من هذا ومن ذلك، ونرى الأصبهاني وهو من علماء الأصول وكلّه جدية، فالراغب الأصبهاني ألف كتاباً من عدة أجزاء وسماه: محاضرات الأدباء، ومسامرات البلغاء، وقصد في منهجه إزالة السأم عن القراء؛ لأنه أدرك هذه الرغبة من نفسه، واستوحى الأمر من منهج رسول الله مع أصحابه، ومنهم نعيمان ليخفف بالنوادر ويسرى عن النفوس.
فمثلاً يتندر على ابن الجصاص وهو أصولي مثله، فأثبت عنه أنه كان مع المتوكل في مجلس على النهر خاص بالسمار، فقال له: عندي لك فاكهة في غير أوانها، فقال: هاته: فقال ابن الجصاص هنا في كمي، ومد الخليفة العباسي يده فبصق فيها، ورمى الفاكهة في النهر، فقال الخليفة: ما هذا قال: لقد غلطت، فأردت أن أبصق في يدك، وأرمي الفاكهة في النهر قال: هذا ما حصل فقال: نسيت لا تؤاخذني لقد أردت أن أبصق في النهر وأضع الفاكهة في يدك فضحك القوم. ولعل هذا من الصنعة بعضهم على بعض، وقد أورد حكاية عن علي رضي الله عنه قد تكون من الألغاز.
جاء عنده أن علي بن أبي طالب: جالس مع أصحابه فقال له رجل: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت أكره الحق، وأصلي بدون وضوء، ولي في الأرض ما ليس لله في السماء، فتعجب من حوله، وفسّرها لهم، بأنه يكره الموت وهو حق، وأصلي على النبي من غير وضوء، ولي زوجة وولد، والله سبحانه منزه عن ذلك. يقول الله في سورة الجن: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3)} سورة الجن.
ومثل هذا الكتاب كثير، فيها جدٌ وهزل، لكنه قصد بها إراحة النفوس وإزالة السأم، وما فيه من نوادر غير موثقة؛ لأنه لا يبنى عليها حكم شرعي، والحديث حديث استئناس.
والله الموفق؛؛؛