إن حركة الحياة تقوم على الازدواجية فكما أن هناك ليلاً فهناك نهار, وكما أن هناك زواجاً فهناك طلاق، وكما أن هناك ولادة فهناك موت، وكما أن هناك بسمة فهناك بكاء، وكما أن هناك ضجيجاً فهناك هدوء. فما هو هذا الهدوء يا ترى؟ إن الهدوء هو منطقة في الوسط تبتعد فيها عن التطرف ذات اليمين وذات الشمال فكرياً ومشاعرياً فتتزن؛ الأمر الذي ينعكس على سلوكياتك فتتزن هي تبعاً لاتزان أفكارك ومشاعرك. ومما نلاحظه بأن من مرادفات كلمة (هدوء) السكون والسكينة، ولذلك أعتقد أن المرأة كانت سكناً من هذا الباب أي باب الهدوء بمعنى أن الأصل في كل زوجة أنثوية/ أنثوية؛ القدرة على إدخال ترددات الهدوء على زوجها، وهذا امتياز يخصها دون غيرها، قال الحق سبحانه وتعالى في الكتاب المقدس: (وجعل منها زوجها ليسكن إليها) أي ليهدأ ويستريح وتتزن طاقاته الفكرية والمشاعرية والجسدية ومن كان سلوكه الاتزان فإنه يكون في سلامة من التخبط وفوائض الاحتمال واللكمات على حد تعبير المفكر الروسي فاديم زيلاند.
إن الهدوء حالة خاصة بالفكر والمشاعر والجسد/ النفس لاستعادة التوازن أو تلقف شيء جديد من المعارف والتأملات كما يقول ذلك الأستاذ زياد دكاش في محاضرته التي ألقاها في بيروت في شهر سبتمبر عام 2015م.
إننا ننوي في هذه التجربة الحياتية التي نعيشها أن نفعِّل الجوانب الحقيقية فينا كالحب والجمال والسلام والهدوء والبهجة، وفي المقابل نقلل قبائل السلبيات ذلك أن هناك ارتباطاً وثيقاً فيما بين الهدوء والسلبيات، فكلما زاد الهدوء كلما قلت السلبيات كالتكبر والتشاوف والاحتقار والغيبة وردود الفعل الفورية بشكل عام.
تقول الكاتبة لبنى نويهض: غريبة هي النفس البشرية كيف تعيش أنواعا شتى من التناقضات في داخلها وتتكيف معها ومن ثم تسعى إلى إيجاد تلك الحالة التي تجمع بين أطراف النقيضين، فإن نجحت في ذلك تعيش حالاً مستديمة من التوازن الداخلي والرؤية الواضحة كتعبير عن اللحمة والانسجام الداخلي, تعبير يظهر في الشخصية المتزنة الداخلي, وفي الشخصية الواعية والرصينة، أما حين تفشل النفس في إيجاد نقطة الالتقاء بين النقيضين فإنها تفقد توازنها الداخلي، إذ تعيش في حال من التطرف؛ والتطرف لم يكن يوماً الدرب إلى الرؤية الحكيمة والصائبة والعيش المتزن السليم في أي شأن. وبما أننا في حياتنا اليومية في تفاعلات دائمة مع الأشخاص والأشياء فإننا لا بد أن نراعي مسألة تكثيف الهدوء في خط حياتنا وخريطة تفاعلاتنا، وحسبك من أهمية ذلك أن يوجه سيدي عليه الصلاة والسلام الرجل الذي سأله الوصية أن لا يغضب ثم يطلب منه مرة ثانية الوصية فيرد عليه بنفس الجواب الأول فيقول: (لا تغضب) ثم يسأله الوصية للمرة الثالثة فيرد عليه بنفس الرد (لا تغضب)، وما كان ذلك إلا أن السداد كل السداد هو في الحفاظ على الهدوء, إذ لا انسجام إلا بالهدوء ولا تقارب مع النفس والناس إلا بالهدوء ولا تطور في الوعي إلا بالهدوء ولا الحكمة تأتي إلا بالهدوء ولا نظرة ثاقبة للأمور إلا بالهدوء. إن الهدوء يأخذنا إلى العمق وإلى حيث يقوى المحور فيك أيها الفرد فتتفعل قوة الخير ويتعمق الصفاء في نفسك سلوكاً عملياً فاعلاً كما تشير إلى ذلك الأستاذة هيفاء العرب في كتابها امرأة من المستقبل. ومن العمق الذي يأخذنا إليه الهدوء التواجد في خط حياة مليء بفرص النجاح، ومن المتيقن بأن هذه الفرص لم يصل إليها إلا أولئك الآخذين أنفسهم بالهدوء وعلى الهدوء، إنه أمر بالغ الأهمية في تجلي نواياك وتحقيق المزيد منها.
إنني أتصور بأن أولى بوابات الهدوء تلمس المحور فيك ثم تقويته، وفي ذلك تقول الأستاذة هيفاء العرب: إن قوة المحور فيك يعني أن تذوي تقلبات النفس إلى غير رجعة, وأن ترضى عن نفسك وترتاح مشاعرك التي تعبر عن هذه الراحة بالثبات وعدم التقلب وعدم جر فكرك إلى متاهة القلق. وكل ذلك يرفع من مستوى استشفافك لمعنى المحور فيقوى فيك.
وكل من سأل عن كيفية الهدوء فليتذكر قول المعلم الأول محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام عندما قال: «إنما الحلم بالتحلم, والعلم بالتعلم, ومن يبتغي الخير يلقه ومن يتقي الشر يوقه» فإذا كان الحلم يمكن أن تأتيه بالتحلم والعلم يمكن أن تأتيه بالتعلم فقل نفس الشيء عن الهدوء، فبابه مفتوح والطريق إليه سالك ما صدقت الله ثم نفسك ولزمت الطريق/ الوعي وأحسنت المسير، وإن كان فيه بعض الطول والتحديات إلا أنه يمكن أن تقطعه وقد قال الأول:
صبرتُ على الأيام حتى تولتِ
وألزمتُ نفسي صبرها فاستمرتِ
وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى
فإن أُطعمت تاقت وإلا تسلتِ