علي الصراف
من كوباني (عين العرب) إلى منبج، إلى غيرهما من القرى والبلدات، أثبت أكراد سوريا أنهم نواة صلبة في مواجهة تنظيم داعش. بل إن هناك ما يبرر الاعتقاد بأن تحرير الرقة لن يتم من دون مساهمة كبيرة يقدمها المقاتلون الأكراد.
هذا دور جدير بالاحترام، ولكنه مثير للمخاوف أيضاً. جدير بالاحترام، لأنه كشف عن مقاتلين أشداء، يخوضون «معركة مجتمعية» شاملة ضد الإرهاب، تشارك فيها النساء بمقدار ما يشارك فيها الرجال. ومثير للمخاوف لأنه ينطوي على «ثمن»، يدفع إلى إقامة نوع من كيان «كردستاني» جديد في شمال سوريا.
الأكراد السوريون يقولون إنهم لا يريدون إقامة ذلك الكيان، إلا أن أحداً لا يصدقهم. الطموحات الانفصالية التي يعرب عنها أشقاؤهم في العراق تقدم دلالة واضحة إلى ما يمكن أن ينتهي إليه الأمر معهم إذا ما فازوا بوضع يسمح لهم بالمزيد من «الإدارة الذاتية».
الولايات المتحدة لا تخفي دعمها الواسع لـ «قوات سوريا الديمقراطية» (التحالف الذي يشكل الأكراد عصبه الرئيس). وكان الجنرال جوزيف فوتيل، قائد القوات الأمريكية في الشرق الأوسط، هو الذي شكَّل هذا التحالف ووقف على بنائه بنفسه على أرض المعركة في شمال سوريا.
الدعم الأمريكي للأكراد ليس مجرد توظيف انتهازي لقوة على الأرض يمكن التخلي عنها فيما بعد. الأمريكيون يهمهم أن يقدموا دعماً من أجل موطئ قدم ثابت، سواء في العراق أو سوريا. وليس مهماً بعد ذلك ما إذا كان النظام هنا أو هناك ديمقراطياً أم فاشياً.
وهذا ما يبرر «نظرية المؤامرة». فالأمريكيون سلموا العراق لمليشيات إيران لإقامة نظام طائفي، وليس لإقامة نظام ديمقراطي. لقد خدعوا الجميع، أمام أعين الجميع. وكان من الطبيعي أن يؤدي ذلك إلى الدفع بأكراد العراق إلى الابتعاد عن بغداد حتى بلغ بهم الأمر إلى التهديد بانفصال صريح.
لقد كانت هذه النتيجة متوقعة ومرغوبة من جانب واشنطن لأنها تحفظ لها القدرة على التدخل المتواصل لـ «إدارة النزاعات» بين «الكيانات» و «المكونات» (وهما من جملة تعابير نشأت مع نشأة النظام الطائفي في العراق). وهذا ما يمكن أن يحصل في سوريا أيضاً.
تركيا ظلت هي العقدة الأهم أمام مشاريع التفتيت المتعلقة بالأكراد. وهي تعرف ما يريده الأمريكيون على وجه الضبط. وتخشاه.
لقد كان أول شيء فعلته الدبابات التركية بعد دخول بلدة جرابلس في شمال سوريا، هو أنها قصفت «قوات سوريا الديمقراطية»، لكي توصل الرسالة المناسبة للجنرال فوتيل شخصياً.
الشرخ القائم اليوم بين أنقرة وواشنطن حول تبعات المحاولة الانقلابية في تركيا، بشأن تسليم الداعية التركي عبد الله غولن، ليس سوى الجزء الظاهر من جبل الجليد. أما الجبل نفسه، فإنه يتعلق بما إذا كانت الولايات المتحدة تريد تكرار خدعتها في العراق لتنشئ وضعاً مماثلاً في سوريا يسمح بظهور «كيانات» و «مكونات».
الأكراد سعداء، بطبيعة الحال، بعلاقتهم بهذه القوة العظمى. وسعداء أكثر بمشاريعها. ويشعرون أنها تخدمهم. إلا أنهم يجب أن لا يستهينوا بالحقائق الجيوسياسية المحيطة بهم.
المطالب القومية الكردية تبدو مطالب مشروعة في أعين من يرددون المبدأ العتيق القائل بـ «حق تقرير المصير للشعوب». إلا أن تطبيقات هذا المبدأ انتهت منذ أن انتهت نشأة «أممه المتحدة».
فالدول التي نشأت عن هذا المبدأ تحولت إلى دول ذات سيادة، وأصبحت وحدتها مبدأ مفروغا منه. ولم يعد بالإمكان مواجهة «مبدأ» فاعل، يقوم على أساسه النظام العالمي الراهن برمته، بـ «مبدأ» انتهت صلاحيته.
يقول الأكراد أنهم خُدعوا في الماضي. وهذا صحيح. إذ قضت «معاهدة لوزان» لعام 1923 على ما أقرته لهم «معاهدة سيفر» لعام 1920. ولكن يجب ألا يُخدعوا مرة أخرى، بأن يتحولوا إلى حطب لموقد «الكيانات» و «المكونات».
أي تحدي لمقومات النظام الدولي، في هذه المنطقة بالذات، سوف يتحول إلى سعير دائم للحروب والتمزقات.
تمزيق السيادة والوحدة الجغرافية للدولة الوطنية لا يخدم التطلعات القومية ولا العرقية لأي أحد. وفقاعة «الكيانات» و «المكونات» خدعة، قد تبدو وكأنها تخدم الأكراد، إلا أنها لا تخدمهم حقاًً، لأنها لا تخدم أحداً.
عندما تُنشئ سعيراً للآخرين، فإنه لن يكون، بالضرورة دفئاً لك.
الدور الشجاع الذي يؤديه الأكراد في مواجهة الإرهاب يمكن أن يوظف في الاتجاه الصحيح، لإقامة نظام يوفر الحقوق والحريات والكرامة للجميع. لا نظام تناحرات عرقية وطائفية.
بمعنى آخر: بالمقلوب تماماً عن الخدعة التي نُفذت ضد الجميع، أمام أعين الجميع.
هل يمكن فعل ذلك؟
نعم، وأمام عيني الجنرال، بل وبفضل معونته؛ إنما بالتمسك بوحدة البلاد وسيادتها، من ناحية، وبقيم العدل والحرية والمساواة من ناحية أخرى.
هذا هو الرهان الوحيد الجدير بالاحترام، ليس في سوريا وحدها، وإنما في العراق أيضاً.