د. جاسر الحربش
من أحد التساؤلات وأهمها: لماذا يصاب آلاف الأكاديميين عندنا بالعقم؛ فلا ينتجون فكرًا، ولا يؤسسون قواعد إنتاجية، ولا يقدمون دراسات ميدانية عن صحارينا وبحارنا وجبالنا المحلية؟ كل ما يوجد من دراسات وثائقية عن الحيوانات والكائنات المهددة بالانقراض في بيئتنا السعودية دراسات وأبحاث علماء أجانب، نشاهدها على فضائياتنا. انحسار الغطاء النباتي، وانقراض الذئب والضب والضبع والغزال من صحرائنا، لم يقدم علماؤنا الجامعيون عنهما أي دراسات ميدانية. أفضل أبحاث علمية لتهجين أنواع النخيل وتحسين أنواع التمور خرجت من كاليفورنيا وإسرائيل. المكيف الصحراوي الذي يستهلك كميات كبيرة من المياه ما زلنا نستعمله بالمواصفات نفسها التي استوردناه بها من دول أقل منا حرارة وأكثر مياهًا. لم يطرأ على الفكرة نفسها أي تطوير أو تحسين لملاءمة درجات الحرارة مع شح المياه في بيئاتنا الحارة الجافة. يا لها من مفارقة، إن أكثر الطرق عملية لتأبير وتلقيح النخيل ومكافحة آفات التمور وتسهيل جني المحاصيل لم تخرج من بلد التمور بل من الأمريكيين والإسرائيليين.
إنني متأكد من إعجابكم مثلي بالوثائقيات التي نشاهدها عن الصحراء السعودية لتسجيل حياة العناكب والعقارب والسحالي والثعابين والخفافيش وأصغر الكائنات بأدق تفاصيل حياتها الليلية والنهارية، طرق تكاثرها، وكيف يتم التصوير والرصد في أقصى الجحور والثقوب والكهوف في الصحراء السعودية. أظننا نتشارك أيضًا في الانزعاج لكون هذه الدراسات تقوم بها فِرق بحثية أجنبية، ليس فيها مجهود سعودي واحد.
لدينا عقم فكري بحثي ميداني تقني تطبيقي، رغم أن الإمكانيات موجودة في مخازن ومختبرات الكليات الجامعية. إذًا لماذا؟ لا بد من أن هناك أسبابًا كثيرة، لكنني سوف أكتفي بواحد، أرى أنه من أهم المعوقات؛ لكونه يمس مفهومنا للوقت وللحياة الاجتماعية. أعتقد أن المعوق الأكبر للعقم الفكري بأنواعه التي ذُكرت هو استقطاع جزء كبير من الوقت/ الزمن لتغطية الارتباطات والالتزامات والمجاملات الاجتماعية، بتكرار ممل، لا ضرورة له ولا فائدة منه.
عندما يلتزم العالم، مثله مثل العاطل عن العمل أو موظف الساعات الثماني، بتأدية الطقوس نفسها في الزيارات والأعراس والتعازي والاستقبال والتوديع، كم يبقى له من الوقت للوفاء بمتطلبات البحث العلمي والتنقيب الميداني؟
العلماء هناك في بلاد العلماء يمكثون إلى ما بعد منتصف الليل في المختبرات، ويقضون الأسابيع والشهور في ميادين المراقبة والرصد والتصوير والتسجيل؛ لأن لديهم مهمة بحثية. لماذا؟ لأن عقلياتهم علمية، وبيئاتهم الاجتماعية لا تجعل للنفاق والمجاملات قيمة اعتبارية.
لذلك أعود إلى العنوان مرة أخرى: متى يدخل العالِم السعودي إلى أقصى جحر الضب؟ من خصائص الأبحاث العلمية التي يركز عليها الاهتمام في مراكزنا البحثية أنها كبيرة العناوين، قليلة أو عديمة الفائدة، وتتم في داخل أروقة المؤسسة الأكاديمية. سوف أجازف وأضيف لها خصوصية أخرى، تحاول جامعاتنا التبرؤ منها، هي عدم الاستقلالية بفريق بحثي وطني، وإنما تعمل بطريقة الزوائد أو العوالق مع مؤسسات بحثية وباحثين أجانب.
عندما تدخل مختبرًا أو ورشة عمل، وتجد السادة والسيدات الباحثين والباحثات يعتمرون الشماغ والغترة والعقال، أو العباءة والشيلة المطرزة، عندئذ قُلْ على العقلية البحثية السلام. هذه «القيافات» لوازم اجتماعية معيقة للحركة، وأهم من ذلك معبرة عن العقل الذي تحتها، هل هو ذائب ومذوب في مهمته البحثية، أم يتظاهر بذلك حتى تحين ساعة الانصراف للانغماس في الحياة الاجتماعية الروتينية؟
البحث العلمي شغف وانغماس، ولا يولد حتى يتوافر له الوالدان «الضرورة والبيئة الاجتماعية»، وما عدا ذلك فهو ديكور بمسمى أبحاث علمية.