م. خالد إبراهيم الحجي
إن محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة في تركيا التي استغرقت أقل من 24 مساء الجمعة إلى فجر يوم السبت الموافق 16-7-2016 م احتلت أخبارها الصدارة في وسائل الإعلام الحديثة، فجعلت كثير من الجماهير العربية تحدق النظر في شاشات أجهزتها الذكية المحمولة، وتتابع شاشات الفضائيات الإخبارية بلهفة شديدة لمعرفة تداعيات محاولة الانقلاب بعد ذلك خلال الأيام التالية. وقد كانت ردود الفعل العامة متباينة على محاولة الانقلاب العسكري، بناءً على بيانات صدرت من الانقلابيين تناقلتها وسائل الإعلام الحديثة بالصوت والصورة إلى الجماهير العربية تعلن نجاحهم، ومع مرور الساعات حتى بزوغ فجر يوم السبت بدأت الأنباء تتضارب بين نجاح المحاولة وفشلها التي كانت تصل إلى المتابعين لأحداث الانقلاب بسرعة البرق، وخلال هذه الفترة الزمنية القصيرة جداً التي لا تتعدى بضع ساعات بدأت تبرز بوضوح ملامح التيارات الفكرية المختلفة في الشارع العربي، من الخليج إلى المحيط، أحدهما رافض لانقلاب الجيش على السلطة الشرعية المنتخبة التي يمثلها حزب العدالة والتنمية الذي يمثل الفكر الإسلامي في تركيا، والتيار الآخر مؤيد للانقلاب لاعتقاده أن تركيا يجب أن تكون علمانية امتداداً لمنهج كمال أتاتورك العلماني، ويرى أن الجيش يمثل التيار العلماني المناوئ للتيار الإسلامي. وبعد أن تمكن الرئيس أردوغان من السيطرة على زمام الأمور في تركيا والقبض على زعماء محاولة الانقلاب الفاشلة وأتباعهم، أعلن أن الذي يقف وراء محاولة الانقلاب الفاشلة «كيان موازي» يرعاه محمد فتح الله جولن: وهو مسلم صوفي سبعيني مفكر وداعية تركي مقيم في أمريكا ويحمل الجنسية الأمريكية، وكان من حلفاء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الماضي ودعمه أثناء صعوده على سلم السلطة، ولكن انقلب الحال ليصبحا غريمين لدودين بعد اتهام الرئيس التركي وحزبه الحاكم (العدالة والتنمية) فتح الله جولن بالتخطيط لاتهامات الفساد المالي المدمرة التي استهدفت وزراء بارزين إلى جانب بلال نجل أردوغان، وأصبح الانقسام بينهما علنياً في سنة 2013م. وخلال الفارق الزمني بين بداية محاولة الانقلاب الفاشلة وبين إعلان الرئيس باتهام «الكيان الموازي» برعاية فتح الله جولن لمحاولة الانقلاب الفاشلة انكشفت التيارات الفكرية المتجذره، التي ثبت بأنها جاهزة للانطلاق السريع في الظروف المناسبة، لذا ظهر على السطح في الشوارع العربية والفضائيات المتلفة المؤيدين لمحاولة الانقلاب (العلمانيين) والرافضين له (الإسلاميين) بسرعة فائقة، قبل التحقق من صحة الأنباء المتتالية والمتضاربة عن محاولة الانقلاب الفاشلة التي توالى ظهور أحداثها السريعة والفورية على وسائل الإعلام الحديثة، البالغة التأثير على الرأي العام، الذي يؤكد أن ردود الفعل السريعة من كل من الفريقين كانت مضحكة ومتناقضة ومثار للسخرية للأسباب التالية:
(1): الفريق الذي اعتقد أن محاولة الانقلاب علمانية وفرح فرحاً شديداً وابتهج كان متسرعاً جداً.
(2): والفريق الذي اعتقد أن الذين فشلوا هم العلمانييون الذين يمثلهم الجيش وفرح فرحاً شديداً وابتهج كان متسرعاً جداً. والدليل أن كل فريق تسرع وفرح وابتهج لأسباب غير صحيحة؛ إعلان الرئيس أردوغان أن الذي يقف خلف محاولة الانقلاب الفاشلة «كيان موازي» يرعاه فتح الله جولن ولكنه ليس علمانياً وكان حليفاً لأردوغان، وسيرته الذاتية ومؤلفاته التي تجاوزت 60 كتاباً تؤكد أنه مسلم صوفي، وحركته إسلامية ولها نشاط إسلامي واسع في دول عديدة إلى جانب نشاطاته الإسلامية داخل تركيا. وردود الفعل التي تشكلت خلال أحداث تركيا نموذج حي لتكوين الآراء السريعة (السابقة لأوانها)، بناء على النقل الفوري والمتلاحق للإحداث عبر الفضائيات والأجهزة الذكية المحمولة. ولولا النقل الفوري عبر وسائل الإعلام الحديثة لإحداث محاولة الانقلاب الفاشلة لكان هناك فرق كبير بين تشكل وتبلور الآراء بسرعة فائقة على ضوء الأحداث الآنية في الشوارع العربية والفضائيات، وبين تكوين الآراء على ضوء النتائج. ومن المفارقة العجيبة أن الرئيس أردوغان سبق وأن أغلق شبكات التواصل الاجتماعي إبان المظاهرات التي انطلقت محتجة على تعهده بهدم مركز أتاتورك الثقافي في متنزه جيزي في محيط ميدان تقسيم، لينشيء على أرضه أول دار للأوبرا إضافة إلى مسجد مفتوح، بعد أن أصبح ميدان تقسيم ومتنزه جيزي رمزاً للجمهورية التركية العلمانية التي نشأت بعد تفكك الدولة العثمانية. وشبكات التواصل الاجتماعي كان لها الدور الحاسم في إفشال محاولة الانقلاب، فعلى الرغم من أن مدة محاولة الانقلاب الفاشلة قصيرة جداً وسيطر الانقلابيون خلالها على القناة الأخبارية الرسمية، إلا أن الرئيس أردوغان استطاع التواصل مع الجماهير من خلال كلمة مباشرة تم بثها حية مصورة بواسطة كاميرا جوال عبر شبكات التواصل الاجتماعي (فيس تايم) التي وصلت إلى الجماهير عبر الأجهزة الذكية المحمولة يطالب فيها الجماهير بالنزول الفوري إلى الشوارع والساحات والميادين لمقاومة الانقلابيين، مما أسهم مساهمة فعالة في إعادة الأمور إلى نصابها في ثلاثة أيام فقط من بداية المحاولة الفاشلة. ومحاولة الانقلاب الفاشلة على الرئيس أردوغان مشابه جداً لمحاولة الانقلاب الفاشلة في أغسطس من عام 1991م على رئيس الاتحاد السوفيتي آنذاك (ميخائيل جورباتشوف) واستغرقت ثلاثة أيام فقط، ولكن الفرق بينهما أن الانقلاب على جورباتشوف حدث قبل ظهور وسائل الإعلامالحديثة بسنوات عديدة من قِبل ما يسمى بعصابة الثمانية، ومنهم وزير الدفاع ورئيس الاستخبارات ورئيس اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، بعدها استطاع جورباتشوف العودة إلى سدة الحكم في رئاسة الاتحاد السوفيتي، لكن التداعيات المتتابعة والمتلاحقة على مدى سنوات عديدة أسفرت عن تفكك الاتحاد السوفيتي إلى جمهوريات مستقلة تحولت من الشيوعية إلى الرأسمالية، وبعض هذه الجمهوريات التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفيتي أصبحت عضواً في الاتحاد الأوروبي، والبعض الآخر عضواً في حلف الناتو، وهو عكس تماماً ما كانت عليه قبل خمسة وعشرين عاماً. وبعد سنوات عديدة من تفكك الاتحاد السوفييتي صرح جورباتشوف في مقابلة تلفزيونية بأن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية آنذاك جورج بوش الأب حذره، عبر الخط الهاتفي الساخن المتفق على وجوده بين واشنطن وموسكو للاستعمال الخاص بين الرئيسين، بأن هناك مؤامرة تحاك ضده للانقلاب عليه ولكنه لم يأخذ التحذير على محمل الجد.
والدروس والعبر المستفادة من المقارنة بين الانقلابين كثيرة جداً؛ لأنه ليس مستغرباً بعد خمس وعشرين سنة من تحذير رئيس الولايات المتحدة الأمريكية لرئيس الاتحاد السوفيتي آنذاك بواسطة الهاتف الساخن بينهما، أن تكون الدول الغربية على علم مسبق بمحاولة الانقلاب العسكري الفاشلة في تركيا وذلك بواسطة تكنولوجيا الوقت الحاضر؛ من الاتصالات المتطورة وتقنية والمعلومات، والاستشعار عن بعد، والتصنت الإلكتروني والتصوير الليلي والحراري، واختراق الجوالات والبريد الإلكتروني (التهكير) - سبق وأن اخترقت وكالة الأمن الأمريكية جوال المستشارة الألمانية ميركل - ومن هذا المنطلق يصعب جداً التكهن بالتداعيات الناتجة عن محاولة الانقلاب العسكري على المدى الطويل 20 أو 30 سنة قادمة، ولكن التداعيات القريبة في المستقبل المنظور تتوقف على حكمة الرئيس أردوغان في التعامل مع هذا الحادث الكبير في تاريخ الدولة التركية.
الخلاصة
إن الدول الغربية على علم مسبق بأن فتح الله جولن والرئيس أردوغان مسلمين وضعهما الإسلام السياسي في مسار تصادمي، وردود الأفعال المتعجلة والمتباينة في الشوارع العربية والفضائيات حسمها إعلان الرئيس أردوغان بأن فتح الله جولن هو الراعي «للكيان الموازي» الذي يقف خلف محاولة الانقلاب الفاشلة، مما يعني أن الصراع في تركيا بين كيانين مسلمين، وليس صراعاً علمانياً إسلامياً كما اعتقدت ردود الأفعال المتعجلة.