زكية إبراهيم الحجي

سيرة حافلة وثرية.. مليئة بتفاصيل واضحة جلية وأخرى مدَّعاة.. أو زاخرة بالأفكار الصحيحة وأخرى مغلوطة.. كتبه ومؤلفاته تزخر بها مكتبات أوروبا وجامعاتها ينهل من معينها طلابها حتى يومنا هذا.. عالم فذ وفيلسوف كبير يُشهد له بالعمق في مجال الفلسفة وله محاولات واسعة في ربط الفلسفة بالشريعة.. ورغم ذلك كان يكتنفه شيء من الغموض وتحيطه علامات استفهام لم يستطع أحد من علماء أو فلاسفة أو حتى العامة ممن شهد عصره أن يفك لغزها.

ابن رشد عميد الفلاسفة العرب الذي قال: «العلم في الغربة وطن.. والجهل في الوطن غربة». فيلسوف ذاع صيته ونال من الشهرة ما نال بعد أن قام بشرح كتب الفيلسوف اليوناني «أرسطو». قال عنه المفكر الإنجليزي «جون روبرتسون»: ابن رشد أشهر مفكر مسلم ومن أعظمهم أثراً وأبعدهم نفوذاً في الفكر الأوروبي وطريقته في شرح فلسفة أرسطو هي الطريقة المثلى.

إن من يقرأ ابن رشد قراءة فلسفية عميقة وبموضوعية مجردة تبهره تلك الإضافات الفكرية والومضات الفلسفية التي أضافها على كل ما لخص وشرح في مؤلفاته وكتبه حيث اختار لنفسه خطاً فلسفياً توفيقياً.. حاول من خلاله الجمع ما بين العقل والإيمان وبين الحكمة والفلسفة والشريعة.. فنجح أحياناً وباء بالفشل أحياناً أخرى ويعتبر كتابه «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال «أحد المصنفات الفقهية والكلامية التي أكد فيه على أهمية التفكير التحليلي كشرط أساسي لتفسير القرآن الكريم.

انطلق ابن رشد في آرائه الأخلاقية من مذهبي أرسطو وأفلاطون.. لكن فلسفة الفيلسوف اليوناني الكبير أرسطو.. فتت أفكار ابن رشد بعد أن ولج في يمِّ فكره بعيد الأغوار فاندمجت خواطر الفيلسوف اليوناني بأفكار فيلسوف الأندلس وليس بعيداً أن تكون كتب الفلسفة لأرسطو قد تم اكتشافها من خلال الفلسفة العربية..فتولاها ابن رشد بالشروح ساعده في ذلك فهمه العميق لفلسفة أرسطو.. وحقيقة لم يكن ابن رشد يجيد اللغة اليونانية لذلك لم يقرأ فلسفة أرسطو من مصادرها الأصلية وقرأها من ترجمات غلب عليها التحريف والتشويه لكنه تمكن من خلال خبرته الفلسفية أن يتوصل إلى كثير من الآراء وذلك عن طريق المقارنة والمقابلة.

عُرف ابن رشد في الغرب بتعليقاته وشروحه لفلسفة وكتابات أرسطو التي لم تكن متاحة لأوروبا في بداية العصور الوسطى وقد أسهمت شروحه لأعمال أرسطو الفلسفية والمنطقية إلى زيادة تأثير أعمال أرسطو في الغرب خلال العصور الوسطى مع العلم أن أعماله الفلسفية كانت أقل تأثيراً في العالم الإسلامي ويدل على ذلك أن الأصل العربي لكثير من أعماله لم يعش بينما ظلت الترجمات اللاتينية موجودة.

التوغل بعمق في فكر ابن الرشد عمل لا يخلو من متعة ودهشة من كم المفاجئات الفلسفية المثيرة التي يؤكد فيها العلاقة الضرورية بين السبب والمسبب كخطوة نحو إرساء دعامة الفكر العلمي في الثقافة العربية وذلك برد كل شيء في العالم إلى أسبابٍ تُدرك بالعقل.. وأن الحصيلة الضخمة من المعارف والمتمثلة في العلوم المختلفة هي وليدة النظرة العقلية التي همها البحث عن الحقيقة.. وأن الواقع هو مصدر المعرفة والمؤثر فيها بمتغيراته.. كما أن الواقع نفسه يعكس التغيرات والتطورات التي تطرأ على العلم والمعرفة.

ابن رشد فيلسوف كبير أثرى المكتبة العربية والمكتبات الأوروبية بعطائه في علم الفلسفة والمنطق.. وأثرت فلسفته على عقول كثير من مفكري أوروبا.. ومهما كُتب أو دُون من صفحات عن هذا الفيلسوف فإنه يبقى عميد الفلاسفة الذي رفع شأن الفلسفة العربية.