د. خيرية السقاف
مكة تُحرمُ،
وثراها الطاهر ملاذ المقبلين..
في قلوبهم خفق مشوق, ورهبة موقف, ورجاء تائب, ولهفة مستجير..
مكة الملاذ للقاصدين..
من كلِّ فجٍّ عميق, ودرب طويل مثقلين بخفاياهم ومقاصدهم, ليفرغوها بين يديه وحده تعالى..
مكة, ماعون التوبة للمشفقين ..
بئر الدموع, وخزينة الأسرار, وصدر الراحة, ونهر التطهُّر, ومنزل الاغتسال,
ومكة تحجُّ مع الحجيج,
وللحج طعمٌ عذبٌ لذيذٌ ذو نكهة - ربما - لا يعرفه أحد بمثل ما يعرفه «أهل مكة»،
وقد كانت البيوت تعتمرها الفرحة بالحجيج,
والحارة, والشارع, والمنعرج من الطريق, والمرتفع من الجبل..
وتلك المزاريب تهطل بمطر السماء, ومطر العيون..
والله أكبر, الله أكبر
كلُّ «التراحيب» بالحجيج, «ضيوف الرحمن»,
ويا لهذه الجملة من وقعٍ في النفوس, وجرسٍ في الأفئدة.., وومضٍ في العيون,..؟!
ونحن - المكِّيون - خارجها في الحج نأتيها,
ننضم إلى أهلنا, فرحين بالرّكض بين أعلى الدُّور في بيوتنا, وثغور أبوابها,
مهلِّلين بالحجيج, مرحِّبين بضيوف الرحمن, متداخلين بين أصواتهم, وفرحتهم, ودهشاتهم, نكتسي معهم الفرح, ونغوص معهم في الإحساس بالحج, ونتفاعل مع نبضهم, نجيب عن أسئلتهم, ونسدد حاجاتهم, ونعينهم على معرفة ما يجهلون, وندلهّم لما يريدون.. كأنهم الفاكهة تحط بحلوها في العروق..!
مكة الجميلة المقدّسة المهيبة,
تعتمرها السعادة الآن, وقد اكتظ الحجيج فيها,
وانبسطت أرضها تتسع لكلِّ أقدامهم, وسماؤها تتمادى لأجنحة دعائهم,
وموائدها لا تنفض مرحِّبة بهم, مبتهجة لهم, مضيافة بين أيديهم تكب سمنها, وعسلها..!
وفيها, في مكة هناك جزءٌ هو في قلب الأرض، في نقطة الوسط من كوكبها، تشمخ فيه المتوشحة بسواد المهابة, والثقة, وسواد العمق, والسكينة كعبتها المشرّفة,
حيث يلتقي الحجيج بسرِّهم, يفرغون مكنونهم, يبسطون حاجاتهم, يؤكدون عقيدتهم, يمكنون عهدهم معه, مع الذي خلقهم فأحسن, وخلقهم فكلف, وخلقهم فسأل, وخلقهم ويعلم..
مكة اليوم في أول شهرها المحرم ذي الحجة,
مكة اليوم في كامل يقظة طيرها, وشجرها, وهوائها, ومائها, وليلها, ونهارها..!!
برائحتها المميَّزة, ودفئها الودود, واحتوائها المكين..
تفتح أبوابها, وتشرع مصابيحها لهم ..
فاللهم أكرم نُزل ضيوفك فيها,
واحفظ مكة ومن فيها من الحارس, والراعي, والمضيف, والنائم, واليقظ, والماشي والراكب, والبائع والمشتري, والعابد والعامل, والساقي, والمتحدث والصامت, وكل من قصدها
احفظهم من شرِّ كلِّ ذي شرٍّ تراه وتعلمه,..
أنت الحافظ الأمين, وأنت الوكيل الحسب, وأنت المطلع اللطيف..
فوّضنا الأمر إليك, وتمسّكنا بحولك العظيم, ولجأنا لقوّتك, وقدرتك, وعلمك ورحمتك,
واكتنفنا بعياذك وحصنك..
اللهم مكِّن حجيج بيتك القاصدين بطاعتك, الراجين عفوك وتوبتك من حجٍّ مبرورٍ, وسعيٍ مشكورٍ, في أمانك الذي لا يخاتله مراوغ، ولا فاسد..
و..
اللهم «حجَّا ونَجَا» كما يقول أهل مكة الطيبون..!
نعم, يا رب, حجاً ونجاة يا كريم ..