فيصل أكرم
لم ينته زمنُ القصيدة الطويلة بعد، ولكن أنفاسي باتت محدودة بالقصر وينهكها الدرب الطويل، ربما بدأتُ أقتنع بذلك منذ (قصيدة الدرب القصير) المنشورة هنا قبل ثلاث سنوات، فكل قصائدي بعدها كانت قصيرة. هذا عذري كشاعر، ولكن ما هي أعذار غير الشعراء، في اجتزاء مقاطع قصيرة من قصائد ليست لهم وتقديمها - كهدايا - لغيرهم؟ وليتهم قدموها كما هي، بل لعبوا فيها ظناً منهم أن بهذا اللعب ستصبح القصيدة من ممتلكاتهم! قلتُ:
سيحاولونَ قصيدةً
وسيفشلونَ، لأنهم لم يتعبوا
فالشعرُ ليس هديةً
نختارها من بعض أسواقٍ
نقدّمها لمن نهوى كعشاقٍ
أيا لا فاظهري قولي لهم لا
بالشعر لا.. لا تلعبوا
أحذّرهم من اللعب ولا أحذّر نفسي، لأنني لم ألعب يوماً بالشعر ولا بغيره.. تلك حقيقتي.. لم أمارس أي لعبة في حياتي، وربما كان هذا خطأي الذي أدفع ثمنه وحدي الآن:
أمسيتُ في تعَبٍ وأصبحتُ القتيلْ
أصبحتُ مقتولاً وأمسيتُ التَّعِبْ
هل كنتُ أتعبُ في المسير ولا أسيرْ
أم كان موتيَ لا يسيرُ كما يجبْ؟!
وكل هذا غير مهمّ الآن، بالنسبة لي، ما دمتُ وصلتُ إلى هذه الدرجة من تعبٍ لا راحة لي منه إلا بموتٍ يبدو أنه يعيش الحالة نفسها من التعب وهو يمهلني لأكمل بعض أشياء لم أعد أدري ما هي، ولماذا أكملها؟ ربما هي فجيعتي بالصور التي أشاهدها كل حين لأجساد غضة بريئة تضربها الحياة بقسوة من فيها يجيدون الضرب بلا رحمة، ويختطفهم الموت قبل أن يأخذوا فرصتهم من الحياة؟ أم هي فجيعتي على الشعر الذي تدنى لدرجة استغلال كل صورة تكسر القلوب النابضة ووضع نفسه فوقها وكأنه هو الكاسر! هذا كسرٌ لقيمة الألم والشعر معاً، فإن كنتَ تريد كسر قلب أحد بالألم فالصورة تكفي، وحدها، والشعر كالصورة يكفي، وحده، أما جمع الصورة بالشعر معاً فهذا كسرٌ لقيمة الألم في الصورة الحقيقية، وقيمته في الشعر الحقيقي، حتى لكأن الألم ينكسر ليصبح شكلاً من أشكال الدعاية والترويج لمنتج لا تجوز عليه سوى الرحمة في الحالتين:
أنا لا أتاجرُ بالبكاءِ على الضحايا الأبرياءْ
أنا لا أتاجرُ بالدعاءِ، ولا النداءِ، ولا السماءْ
فهي الفنونُ تجارتي
ربحي بها وخسارتي
إن قلتُ شعراً
قلتُ نثراً
قلتُ تجربةً سيحضنها الفضاءْ
وتعودُ، إن أتقنتها، خبزاً وماءْ
أنا لا أتاجرُ بالكتابةِ فوقَ صورةِ طفلةٍ فقدتْ يديها
أو تصاوير العصافير الجريحةِ حينما انهدمتْ منازلُها عليها
هم صوّروها كي نرى
بعضَ الدمار وقد جرى
بعروقنا للقلب، نكتبُ
أو نجرّبُ أن نسيرَ إلى الضميرْ
هل فقدنا الدربَ؟
علّقناه في صورٍ، وقلنا: قد فعلنا الواجبَ الملقى علينا للأخير؟!
سأقولُ: لا؛ أنا لستُ من هذا النفيرْ
إن كنتُ منهم، لا شهيقٌ زار صدريَ أو زفيرْ
ابكوا على الصور التي شاهدتموها
واحفظوها
من كتاباتٍ تتاجرُ بالدموعِ وبالدماءْ
وارفعوها
عن كتاباتٍ تتاجرُ بالدعاءِ وبالسماءْ
هل نحنُ في زمنِ التجارةِ بالقضاءِ وبالقَدَرْ؟
أنا لستُ من هذا الزمانِ، ولا الزمانِ المُنتَظَرْ
أنا لا أروّج للقصيدةِ بالصورْ
فقصيدتي هي صورتي
أنا كالغيومِ، إذا تكونُ هي المطَرْ
فخذوا القصائدَ في حذرْ
وتجنبوا الشعرَ الذي قد صارَ في الزمنِ الخطيرِ هو الخطرْ
وتجنبوا الشمسَ التي فقدتْ حقيقتها هناكَ
تجنبوا حتى القَمَرْ.