إن مما لا شك فيه أن المشي بالنور يختلف وبشكل كلي عن المشي بالظلام؛ فالأول مظنة السلامة فيه أكثير بكثير من الثاني, ومن جماليات الخطاب القرآني المقدس قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} سورة الحديد (28)، فكانت هذه الآية هي الفاعلة لكتابة هذا المقال ومما نلاحظه في الآية أن تقوى الله والإيمان برسوله الكريم يحقق لنا ثلاث مكافآت ويالعظمة هذه المكافآت؛ فالأولى هي: إتاء كفلين من الرحمة الربانية والثانية: يجعل لنا نورا نمشي به والثالثة: المغفرة. ولننتبه بعض الشيء إلى المكافأة الثانية (أن يجعل لنا نورا نمشي به) وهي التي استوقفتني كثيرا وجلست أياما متأملا ومتمعنا في كيفية هذا النور الذي نمشي به؟ وفي كيفية أن الله يمكن أن يجعله لك هكذا ببساطة وسهولة؟ إنه أمر مدهش فعلا, ثم توالت الأسئلة أكثر وأكثر في الكيفية التي يمكن أن يقوم فيها الواحد منا بإنشاء هذا النور؟ وأيضا ما هي الكيفية التي يمكن أن يستزيد بها من ذلك النور؟ ثم كيف يمكن أن يكون أثر ذلك المشي بالنور على مجموع أفكارنا ومشاعرنا وجسدنا وكذلك أثرها على آل بيتك ومعارفك وأشيائك التي تستخدمها وعلى كل من تتعامل معه ويتعامل معك؟!! ثم لاحظ أن المنشأ له والمصدر هو الله سبحانه وتعالى! وأنا في تمعني ذلك استدعيت قول الله تعالى {أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} سورة الملك (22) وإن من المعلوم أن ممارساتنا في أعمالنا وأحوالنا اليومية إحداث الحركة ولولا ذلك الإحداث لما كان هناك تفاعل وانفعال وأفعال؛ وما يستتبعهما من شوؤن ولوازم ومسؤوليات. وإحداث هذه الحركة اليومية في الأحوال والمقامات هي مشيٌ؛ وهنا ثمة سؤال: هل تكوَّن لدينا وعيٌ بالمشي؟ طبعا لا نقصد المشي الحركي الرياضي وإنما ما هو أعمق من ذلك كمشينا بالأفكار ومشينا بالمشاعر ومشينا بالنوايا. وإذا قمنا بتحليل وتفكيك بنية هذا النص سنجد النموذج الإدراكي الكامن فيه كالتالي: (يمشي- مكب- وجه- هداية- سوي- صراط مستقيم) وكي نفهم الآية حق الفهم لا بد أن نقوم بعمليتي تجريد وربط كالتالي: خليفة الله في الأرض هو (الإنسان) ثم لدينا نوعين من المشي الأول: المكب على الوجه ولثاني هو المشي السوي وهذا (فعل إنساني) ثم لدينا (نتيجتان روحيتان) الأولى: الهداية والثانية: الصراط المستقيم, وهذا التصور الذهني لفكرة الوعي بالمشي من خلال تفكيك هذا النص لو رفعناه إلى المستوى المعرفي/الإنطولوجي والمختص برؤيتنا للوجود والكون فإننا سنرتبط بمفهومين معرفيين عميقين وهما مفهوم الاستخلاف في الأرض ومفهوم حمل الأمانة كما في قول الله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ} سورة الأحزاب (72)، ومن خلال هذا المستوى نستنتج أن الآية تتحدث عن علاقة الإنسان بفعل المشي وهي علاقة تقوم على مفهومي الاستخلاف وحمل الأمانة ومن هنا لا بد أن تكون على وعي عالٍ بممشاك في كل من: نواياك وأفكارك ومشاعرك وجسدك وعلاقاتك مع الأشخاص والأشياء لأنك خليفة الله ولأنك تحمل أمانة قبِلت بحملها منذ الأزل. ونصل الآن إلى النتيجة التالية: أنه من المعينات لك لإنشاء/استزادة المشي بالنور أن تكون واعيا بالخلافة وحمل الأمانة ذلك أن ذلك سيساهم بشكل أو بآخر على مزيد من الوعي الخلاق الذي يقربك من الخالق وكل من اقترب من الخالق زاد النور لديه يقينا. وكي نربط ما بين الآيتين السابقتين نقول بأن ثمة ارتباطا وعلاقة بين النور الذي جعله الله لنا مكافآة وبين المشي على صراط مستقيم، فمن يمشي في نور الله هو على صراط مستقيم ومن يمشي على الصراط المستقيم هو أيضا يمشي في نور الله. وما نؤكد عليه أن المشي بالنور هو شيء يجعله الله للإنسان إمدادا منه وإعدادا وإذا ضربنا مثالا للعين وكيف ترى الأشياء فقد كان المسيطر في الحضارات القديمة بأن هناك ضوءا يخرج من العين إلى الجسم الذي تراه فتستطيع أن ترى حتى جاء العالم المسلم ابن الهيثم وطرح نظريته التي هي عكس ما كان سائدا بشكل كامل فأثبت أن العين ترى من خلال أشعة أو ترددات تصدر من الجسم المرئي إلى العين وبهذا الشكل هي تتمكن من الرؤية ولذلك لو كان الواحد منا في غرفة مظلمة لما استطاع أن يرى شيئا أبدا وقل نفس الشيء عن فكرة المشي بالنور فهو شيء خارج عنك وإن كنت سببه والله هو مصدره سبحانه وتعالى فهو الذي يجعلك ابتداء تمشي بالنور: {وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ سورة الحديد} (28).