حمّاد السالمي
«تستقبل الأراضي المقدسة هذه الأيام؛ مئات الألوف من حجاج بيت الله الحرام من مختلف قارات العالم. رحلة الحج أضحت سهلة ميسّرة بعد أن يسّر الله لعباده الطائرات والسيارات والبواخر، وكانت رحلات الحج لا تعرف غير البواخر القديمة والجمال والأرجل. كانت رحلة الحج لأحدهم تستغرق معظم أشهر السنة إن لم تكن كلها لقادمين من شرق الكرة الأرضية أو من شمالها وغربها، فإذا هي اليوم تتم في ساعات بدلًا من أشهر.
«كنا في قرانا ونحن أطفال صغار؛ لا نعرف عن الحج إلا ما يصلنا من حفنة حمص وحلاوة ممن وفقه الله فحج. حالة فرحية لا توصف في زمن سابق للراديو والسيارة اللذين وصلانا بالعالم فيما بعد.
«حالة فرحية أخرى كنا نعيشها في مواسم الحج عندما نقف على طريق العصبة الذي يمر بقرانا، وهو طريق الحاج اليمني عبر السروات. نترقب مرور حجاج اليمن وجنوب المملكة الذين يسيرون على أقدامهم من صنعاء أو عسير إلى مكة والمدينة، وهي رحلة تستغرق في العادة عدة أشهر. الواحد من هؤلاء الرجال كان يسير بكل همة وعزيمة وعلى ظهره (زعبة) أو (بقشة) فيها دقيق وبن وقشر ولوازم شخصية. إذا وصل عندنا رحبنا به، فيقف على رجل واحدة والأخرى على عصاه، ويبدأ في سرد قصة رحلته من ساعة خروجه من داره وقريته إلى لحظة وصوله هنا. ما رأى وما سمع وما مر عليه من مصاعب ومتاعب، ومن قابل من الناس أو الحيوانات المفترسة، ومن من الناس أقراه أو تجاهله، وماذا جرى ويجري في البلدات التي مر بها من خير أو مجاعة أو احتراب وخلافه. كل حاج كان بالنسبة لنا إذاعة متنقلة، حتى في عودته من الحج نترقبه لكي يقص علينا قصة الحج، ويفرحنا من حبات الحمص والحلاوة.
«عشت هذه الخواطر الإيمانية، وهذه الصور التاريخية؛ وأنا أقلب نظري في منشورات كثيرة عن الحج وأيام الحج عبر تاريخه الطويل الذي ينوف على أربعة عشر قرنًا في عصره الإسلامي. لفت نظري ما تتضمنه أدبيات الحج من طرائف وغرائب وعجائب لا تنتهي بعصر، ولا تقف عند أحد. أردت هنا أن أشرككم في قليل مما وقفت عليه من صور عجيبة، وقصص غريبة، تعكس طيبة بعض الحجاج إلى حد السذاجة، وعزيمة البعض الآخر التي تهد الجبال، ونصل مع هؤلاء وهؤلاء إلى سلامة القصد وحسن النية، وأنّ الأعمال كلها بالنيات.
«نشرت الصحف خبر مسلم بوسني هو: (مسند حاجيتش - 47 عامًا)، حج إلى مكة مشياً على قدميه، وقد بدأت رحلته فعلاً من (بانوفيتس) شمالي البوسنة في محرم عام 1433هـ ، الموافق ديسمبر 2011م ، فوصل مكة في أواخر شهر ذي القعدة 1433هـ، الموافق منتصف أكتوبر 2012م، بعد رحلة ممتدة 6 آلاف كيلومتر!!
«حاجان أفريقيان هما: (أحمد هارون - 25 سنة)، و(نظيم كيرن كروس 28 سنة)، قطعا مسافة 11 ألف كيلومترًا على دراجتين هوائيتين لأداء فريضة الحج عام 1431هـ ، واستغرقت الرحلة تسعة أشهر. رغبة منهما في التعرف على رحلة الحج القديمة سيرًا على الأقدام أو باستخدام الدواب. كانا يسيران من بعد صلاة الفجر إلى منتصف النهار، ثم ينامان في مسجد أو عند شخص يلتقون به فيستضيفهم في منزله. أديا كل مناسك الحج على دراجتيهما.
«حج المشير (عبد الرحمن حسن سوار الذهب) رئيس السودان السابق، وبعد أن أكمل رمي جمرة العقبة، قام إليه مرافقه وزير المالية السوداني فحلق رأسه، ثم قام المشير فحلق للوزير، وفور انتهائه؛ أقبل إليه أحد الحجاج المصريين يطلب منه أن يحلق له رأسه! فأجلسه المشير وحلق له. فلما فرغ؛ ناوله الحاج المصري عشرة ريالات. اعتذر المشير عن أخذ المبلغ، فألحَّ عليه الحاج أن يأخذ أجرته، عندها قال وزير المالية للحاج المصري: أتعرف من حلق لك رأسك؟ إنه المشير سوار الذهب رئيس السودان!؟ فصاح الحاج المصري: (يا خبر أبيض)..!
«ذكر أحد الحجاج أنه رأى حاجًا كاد يسقط من أعلى الجسر، نتيجة للزحام والتدافع عند رمي الجمار، ولكنه تمسك بالحديد بقوّة، فسقطت ثياب الإحرام عنه، وكان إفريقيًّا شديد السواد، ضخم الجسم، فلما رآه بعض الجهلة؛ ظنه الشيطان قد خرج، فصار يهتف بكل حماس: خرج الشيطان!! ظهر الشيطان!! وأخذ الجهلة يرجمون هذا المسكين بالحصى والنعال، حتى أدركته سيارة الإسعاف وهو على وشك أن يفارق الحياة..!
«ومما يحكى؛ أنّ أحد الجهّال قبل خمسين سنة؛ جعل من نفسه مطوّفاً، فأوكل إليه رئيس المطوّفين تطويف اثنتي عشرة امرأة، وبعد أن انتهى معهن من رمي الجمار، أمرهن بحلق رؤوسهن بالموس جميعاً، وعادت النساء إلى أهلهنّ بدون شعر!
«وجاء عن أحدهم؛ أنه رأى مجموعة من النساء يبدو أنهن من الجمهوريات السوفيتيّة يتقدمهن رجل من بلادهن يقرأ العربية إلا أنه لا يفهمها، وذلك أنه كان يقرأ من كتاب الأدعية، وهن يردّدن وراءه، حتى صار يقول : طُبع، فيقلن: طُبع. فيقول: في الرياض..!!، فيقلن: في الرياض. فيقول: في مطبعة. فيقلن: في مطبعة..!!
«إن طرائف الحجاج وما يحيط بهم في رحلات حجهم من غرائب وعجائب قصص لا تنتهي. نختم بما رواه حاج كبير بالسن عما حصل له في إحدى السنوات الماضية وهو بالحج، وبالتحديد عند رمي الجمرات. قال: بأنّ أخته وكّلته بالرمي عنها، وعند الرجم كان يردد: (اللهم اجعلها عن أختي حصة). وكان خلفه حجاج من دولة آسيوية سمعوا ما قال، فراح هؤلاء الحجاج أثناء الرجم يرددون: (حصة حصة)..!
«اللهم تقبّل من الحجاج حجهم، وتب عليهم، واعف عنهم، وردّهم إلى أهلهم سالمين غانمين.