محمد آل الشيخ
يقول علماء الاجتماع: إن هناك فيروسات خطيرة تبقى في مرحلة كمون في جسد المجتمعات، تتكون من موروثات وبقايا عصر ما قبل الحداثة السياسية، أو إذا شئت قبل مرحلة الدولة المركزية المعاصرة (الوطن)؛ وما أن تمر الأوطان بأزمات داخلية، أو اقتصادية، أو قلاقل سياسية، فإن هذه الفيروسات تستعيد نشاطها وتعمل من جديد، وبنحو أشد قوة وشراسة مما كانت عليه في السابق. العراق، سوريا، ليبيا، الذي يحصل فيها الآن هو بالمختصر المفيد أمثلة تُجسد ما أقول خير تجسيد، فها هي الطائفية والمذهبية والعرقية والعشائرية تعود لتعمل وبنشاط مرضي شرس، مُفتتة مفهوم الوطن الواحد.
كما أن مرحلة (الصحوة) التي مررنا بها التي هي الآن في مرحلة احتضار وربما موت سريري، أسهمت وبقوة في إلغاء الوطن وأثارت النعرات المذهبية، واعتباره مجرد حفنة من تراب، وفي المقابل استبدلت الانتماء للتأسلم السياسي أينما وجدت (أمة الإسلام) عوضًا عن الانتماء للوطن، ووحدته والذود عن ترابه. أتذكر مثلاً عندما غزا صدام الكويت، ورفع الصحويون عقائرهم رافضين الاستعانة بالقوات الأجنبية، والاستعاضة عنها بالمجاهدين الأفغان العرب، الذين كانوا آنذاك عائدين للتو من أفغانستان، كتب الدكتور غازي القصيبي -رحمه الله- قصيدة وطنية غناها محمد عبده ورددت أصداؤها كل أرجاء الوطن، مطلعها:
نعم نحن الحجاز ونحن نجدُ
هنا مجدٌ لنا وهناك مجدُ
فرد عليه الشاعر العشماوي، الذي كانوا يسمونه حينها (شاعر الصحوة) رافضًا قصر الوطن على مكونات المملكة، وأصر على أن (الوطن) هو مفهوم دولة الخلافة التي يعمل لتحقيقها الآن أبوبكر البغدادي ومن قبله ابن لادن والظواهري؛ ولأنها كما هي قصائدهم المؤدلجة ركيكة ومضطربة ما علق منها في ذاكرتي إلا فكرتها. لذلك فإن انهيار الصحوة وفشلها من شأنه أن يكرس اللحمة الوطنية، ويجعل الانتماء للمملكة هو الانتماء الأول، كما أن هذا الوطن مثلما هو غير قابل للنقصان هو أيضًا غير قابل للزيادة، ولن يقبل سعودي وطني أصيل، أن يذوب هذا الكيان بسيادته واستقلاله في كيان أكبر على أساس الانتماء الديني كما يدعو أقطاب التأسلم السياسي، أو على أساس الانتماء العرقي أو الإثني كما كان يدعو القومجية العرب قبل هزيمتهم النكراء في حزيران 67.
الآن والصحوة القميئة توشك على أن تكون جِنازة تُهيئ للدفن بعد أن انكسرت على حدود الوطن أمواج الثورات العربية الدموية التي أشعلها الإخونج فيما كان يسمى في قاموسهم (الربيع العربي)، فيجب أن نعترف، بل زمن الضرورة أن نعترف، أن الفيروسات التي حولت البلدان العربية الثلاثة إلى شلالات من دماء، عادت فيروساتها في الجسد السعودي إلى مرحلة كمون، ولم تنته؛ الأمر الذي يحتم علينا وبشكل عاجل (تجريم) كل من يحاول إثارة وتهييج هذه الفيروسات المتعفنة، ولن يتحقق ذلك إلا بقانون حازم من شأنه أن يجرم إثارة النعرات المذهبية أو العرقية أو المناطقية بروادع حازمة، وألا تأخذنا في من يروجون لمثل هذه النعرات المذهبية أو العنصرية رأفة أو رحمة؛ كائنًا من يكون صاحبها.
إلى اللقاء.