د.عبد الرحمن الحبيب
إذا كنت تعتقد أن ازدهار العولمة الاقتصادية وهيلمانها على حياتنا لن يمكن هزيمتها، فعليك أن تعيد التفكير مرة أخرى.. نسبة تزايد عدم عدالة توزيع الثروة ارتفعت منذ عام 2007 من 12 دولة إلى 35 دولة حالياً في 46 دولة الأكبر اقتصاديا في العالم.
ذلك حسب دراسة مسحية لبنك كريديت سويس، دون ذكر للأسباب.. فما السبب في اعتقادك؟ هل العمال الأجانب الذين جاءت بهم العولمة يسرقون وظائف المواطنين كما يقول اليمينيون، أم أن الأغنياء بزمن العولمة يسرقون مزيداً من الثروة على حساب الآخرين كما يقول اليساريون، أو أن الأزمة تكمن في طبيعة العولمة الرأسمالية التي تحتاج لإصلاح كما يقول الليبراليون؟
الخبير الاستراتيجي روشير شارما (مؤلف كتاب «صعود وانهيار الأمم») دقّ الأسبوع الماضي ناقوس الخطر محذراً من تفشي انعدام العدالة في توزيع الثروة، قائلاً: ينبغي أن يستعد العالم لعصر ما بعد العولمة لأن فكرة السوق المفتوحة والاقتصاد الموحد تنهار، بدليل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وسيتبعها حتماً آخرون.. إنه نهاية عصر العولمة كما نعرفه!
هل بالغ شارما، وما هو بديل العولمة: قوميات بحدود منغلقة وصراع حضارات أم سنشهد عالماً آخر لا نعرفه بعد؟ يرى شارما أن حرية الحركة والتجارة الحرة العابرة للحدود والاتحادات التجارية الدولية أسهمت في تسارع النمو الاقتصادي العالمي بمعدل مذهل غير مسبوق، إنما الأزمة المالية عام 2008 طمست كل ذلك وصارت العولمة آيلة للسقوط. كيف؟
بدلاً من حصول طفرة اقتصادية، كما جرت العادة عقب التعافي من أية أزمة مالية، تقلص النمو الاقتصادي العالمي لحوالي النصف بعد أزمة 2008! على حساب من؟ على حساب العدالة في توزيع الثروة، إِذْ زادت البنوك من معدلات الإقراض والاستثمارات في قطاعات معينة كالبورصات والسندات المالية والعقارات وهي قطاعات لا يستثمر فيها إلا الأغنياء، بدلاً من ضخ المال لخلق وظائف جديدة في الاقتصاد الفعلي وتخفيف حدة الأزمة عن كاهل الطبقة العاملة والوسطى.
وسبق لتوماس بيكتي أن حذر في كتابه «رأس المال بالقرن الحادي والعشرين»، من أن معدل العائد من رأس المال (أرباح الأسهم والفوائد والإيجارات والاستثمارات طويلة الأجل..) أعلى من معدل نمو الاقتصاد (الدخل والناتج)، مما يؤدي إلى تراكم ثروة الأغنياء فتنمو أعلى من الناتج وأجور العمل.. فيتزايد تفوق رأس المال المالي على رأس المال البشري، وتزيد حصة الأثرياء على حساب البقية، ليزيد الإجحاف بتوزيع الثروة والدخل فتتآكل الطبقة الوسطى.
الطبقة الوسطى هي الحصن المنيع للنظام السياسي الليبرالي وتآكلها يهدد الأنظمة الحاكمة في الدول الديمقراطية.. هنا تتنامى ظاهرة العداء لمبدأ الحدود التجارية المفتوحة والهجرة والحكومات الحالية.. مثلاً: قبل عام 2008 كانت نسبة التأييد للأنظمة الحاكمة في دول أوروبا الديمقراطية نحو الثلثين، لكن هبطت حالياً إلى الثلث، بينما في الدول العشرين الأكثر نمواً تراجعت نسبة التأييد للحكومات القائمة من 54 في المئة عام 2008 إلى 37 في المئة حالياً، حسب شارما.
هذا الغضب من الحكومات والعولمة استغله قادة اليمين الشعبوي مثل دونالد ترامب بأمريكا ومارين لوبن بفرنسا وقادة حملة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي التي يمثل خروجها - حسب شارما - مجرد عَرَض للغضب الاجتماعي الشعبوي الذي يلقي اللوم على الحكومات القائمة وحرية التجارة العالمية وسياستها المنفتحة مع المهاجرين «الذين يسرقون الوظائف».
لقد ازدهر اليمين الشعبوي على عكس المتوقع بأن يزدهر اليسار بعد الأزمة الاقتصادية عام 2008.. لأنه على مدى ثلاثة عقود لم يتمكن أي مفكر من الليبراليين أو اليساريين أن يطرح أفكاراً جاذبة للجماهير أو حتى فكرة واضحة منهجياً للنخبة المثقفة، مما أدَّى لازدهار اليمين المتطرف؛ حسب الأطروحة الجديدة لفوكوياما.
اليمين الشعبوي لم يطرح أفكارا عملية بل ردود فعل عاطفية عشوائية ضد الأفكار السائدة للعولمة حسب تشخيص راتشمان، حين توافق الاشتراكيون بالصين، والرأسماليون بأمريكا، واليسار المتساهل بأوروبا.. كان القادة السياسيون من جميع أنحاء العالم يتحدثون اللغة العولمية نفسها عن تشجيع التجارة الحرة، وتم تقبل عدم المساواة المتزايد باعتباره ثمناً يستحق دفعه لأجل النمو السريع.
في ظل هذه اللغة العولمية المتعالية احتجت الأصوات الوطنية مدافعة عن مصالحها (فرصها الوظيفية)، وبدأت بعض الدول باتخاذ إجراءات مضادة للعولمة. إنما المفارقة العويصة أن مزيداً من الحماية للاقتصاد الوطني قد يوفر وظائف لأبناء البلد على المدى القصير لكنه لاحقاً سيضعف الاقتصاد الوطني لأنه سيؤدي لعزلته عن الاقتصاد العالمي، ليحصل ركود اقتصادي ومزيد من البطالة والتأزم!
إذن المعركة الأساسية ليست بين العالمي والوطني.. كما أنها ليست بين اليمين واليسار بل بين العولمة بتغيرها التكنولوجي السريع وتمزيقها للنسيج الاجتماعي وبين الطبقة الوسطى، حسبما يرى مات ميلر. فبينما يحن اليمينيون إلى الماضي ويعلن الليبراليون واليساريون استياءهم من الحاضر فذلك لن يفضي بنا لما نحتاجه، وهو أجندة «إيديولوجية إِنسانية» تضمن تكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية بزمن العولمة عبر تجديد مؤسساتنا وإعادة توزيع الثروة، لنمو الطبقة الوسطى.. يقول ميلر: «الديمقراطية الليبرالية ليست الحلوى بل الأكل. الحلوى هي الطبقة الوسطى».