د. أحمد الفراج
كلما تابعت المناشط الاجتماعية، ومناشط التعليم، على وجه الخصوص، تعود بي الذاكرة إلى الزمن الجميل، أو زمن الطيبين، فقد نشأت، ومعي جيلي، في مجتمع مختلف عما ترونه اليوم، وأشعر بحزن عميق على أجيال، عاشت طفولتها وشبابها في مجتمع تم اختطافه من قبل ما يطلق عليه الصحوة، أي الزمن الذي تم فيه منع كل نشاط فكري أو ثقافي أو مسرحي، عدا تلك الأنشطة التي جاءت بها الصحوة، كحفلات تكسير الآلات الموسيقية، أو دعوة مفحط سابق ليلقي محاضرات فكرية في مؤسساتنا التعليمية، وهي المحاضرات التي يتخللها، للأسف الشديد، بذاءات وفحش في القول، كما نشاهد في مقاطع فيديو منتشرة منذ فترة، ويعجب المرء من السماح لمن لديهم خلل سلوكي بإلقاء محاضرات، فقط لأنهم يظهرون بمظهر معين، وهو مظهر خادع، يختلف كليا عن حقيقتهم.
ذات زمن جميل، وعندما كنا طلابا في المدارس الابتدائية، قبل أن تدهمنا ثقافة الصحوة، كانت المدرسة ساحة تعليم وفكر، يقودها تربويون غير مؤدلجين، فقد كانت توكل لنا مهمة تصميم وإخراج صحف حائطية، وكنا نضمن تلك الصحف من كل أشكال العلوم والمعارف، بتشجيع من أساتذتنا المتميزين، وأذكر أننا كنا نحشو تلك الصحف بالمعلومات فى شتى التخصصات، وبالشعر، والحكم، وأبرز أقوال المفكرين، ولا أذكر أن أحدا اعترض على قصائد المتنبي، أو نزار قباني، أو بدر شاكر السياب، التي كنا نكتبها في صحفنا الحائطية، كما لم يكن أحد يمنعنا من الكتابة والتعريف برموز سياسية عالمية، مثل ونسون تشرشل، وجون كينيدي، وجواهر لال نهرو، أو رموز علمية، مثل البرت اينشتاين، أو توماس اديسون، بل كان الأساتذة والطلاب ينتظرون تلك الصحف، ثم يقرؤون ما فيها حرفا حرفا، ولا يقتصر الأمر على الصحف، فقد كان هناك مسرح مدرسي «حقيقي»، وكانت المدارس تتنافس فيما بينها، كما كانت مادة التربية الفنية تدرس بمعامل خاصة في بعض المدارس، وتدرس كل أشكال الفن، مثل النحت، وغيره، وماذا بعد؟!.
من أجمل ما لن تنساه الذاكرة، كان هناك مسابقات ثقافية بين مدارس المدينة الواحدة، يشارك بها أبرز طلاب الصف السادس الإبتدائي، وكان مدير المدرسة يتولى الاهتمام بفريق المدرسة بنفسه، وكان هناك حماس وتشجيع منقطعي النظير لهذه المسابقات، من قبل طلاب المدارس، وكانت هذه المسابقات- التي تقام أمام الجمهور- تقام بطريقة خروج المغلوب، اذ يكون فريق المدرسة «أ» على اليمين، وفريق المدرسة «ب» على اليسار، وبينهما لجنة التحكيم، والتي تضم نخبة من الموجهين التربويين، والذين يسألون المتسابقين الأطفال في كل أشكال العلوم والمعارف، فلم تكن المناشط اللاصفية مؤدلجة في تلك الأيام، ولم يكن هناك « ملاقيف»، بمسمى محتسبين، وفي نهاية « الدوري الثقافي»، تحصل المدرسة الفائزة على كأس، أمام جمهور كبير، ولا أظن أنه يمكن أن يتم تشجيع الأطفال على القراءة والبحث بطريقة أفضل مما كان يتم في تلك المناشط، التي كانت عنوانا للزمن الجميل.
الحديث يطول حول ذلك الزمن، الذي طال انتظارنا لعودته، بعد غياب قسري، استمر طويلا، تم فيه اختطاف المجتمع، ومؤسساته، من قبل سدنة الإسلام السياسي، وصبغت حياتنا وثقافتنا بلون واحد، كئيب ومؤدلج، وكان من نتائجه انتشار التشدد، وغياب البسمة والفرحة، وإننا متفائلون، هذه الأيام، بالعودة إلى ذلك الزمن، ولن يكون الأمر يسيرا، ولكنه ممكن، في حال وجود الإرادة، وسأتفاءل، فتفاءلوا معي.