د. جاسر الحربش
أرجو ملاحظة العنوان، لم أقل من المحظور إلى المباح، بل إلى المستباح. لو طبعت الحكومات لن تطبع الشعوب. الحكومات قد تطبع علاقاتها مع عدو لدواع أمنية أو حسابات سياسية. الشعوب لا تطبع مع عدو يتسلى جنوده بالتبول على عجوز فلسطينية ملقاة على الرصيف ويتحرشون بالفتيات ثم يطلقون عليهن الرصاص لأنهن قاومن التحرش، ويقتلون الأطفال بعد صلاة الجمعة على أبواب المساجد، ويحرقون الرضع في بيوتهم ويقصفون المدينة بقنابل الفوسفور الحارق.
إسحاق رابين كان يعتبر عند قومه من الحمائم فقتلوه، رغم أنه قال يوما ما: سوف نكسر عظام العرب ونحطم جماجمهم ونريهم النجوم في عز الظهيرة.
بينجامين نتينياهو رئيس وزرائهم الحالي يعتبر عندهم من الصقور ويحظى بشعبية ساحقة. الرجل كذاب أشر ومجرم يتحرج حتى أخلص مؤيديه الغربيين من اندفاعاته العنصرية، ولكنه هو الذي قال مؤخراً: الفرصة سانحة الآن للدول العربية لإقامة تعاون مع إسرائيل في ظل التهديدات الإيرانية. أمامي مقال نشر في صحيفة سعودية يوم 27-8-2016م يؤيد التطبيع مع إسرائيل بما يشبه الاستسلام. يفتتح من كتب المقال بتصريح نتينياهو الذي أوردته أعلاه. البداية بحد ذاتها منفرة وتدل على أن من كتب المقال لا يعرف من هو وما هو بينجامين نتينياهو، لكن من العبث أن يتحول شأن مبدئي يخص أمة بكاملها إلى سجال جانبي بين شخصين أو ثلاثة أو عشرة. لذلك لن أدخل من باب السجال مع من كتب المقال نفسه ولن أذكر أسماء وأكتفي بعرض بعض الأفكار التي وردت فيه، أي ترويج التطبيع بطريقة خرجت من المحظور إلى المستباح.
أعود إلى أفكار المقال الترويجي وأهمها ما يلي:
1 - الأقرب لتوصيف التطبيع أنه دلالة تعايش، لرفع رمزية الهوية الخاصة وللمشاركة في تنمية شاملة، وللانفتاح الاندماجي مع الهوية الغيرية (هكذا) بضمير المشاركة ووحدة المصير والمنجز.
تعليقي على ذلك: واضح أن من كتب المقال إما أنه حسن الظن لدرجة الغفلة بالفكر الصهيوني، أو أنه خالي الوفاض معلوماتياً، سواءً عن الإرث التوراتي أو مانفستو مؤتمر بازل أو الحلم التلمودي باحتلال ما يسمونه أرض الميعاد ويلقن للأطفال في مناهجهم المدرسية.
2 - ثم يورد المقال ما يصنفه كفوائد للعرب من التطبيع مع إسرائيل، وأوجزها لضيق المساحة المسموحة للكتابة: التخلص من سندان إيران ومطرقة إسرائيل / تكوين درع لحماية العرب ضد إيران التي تحتقر العرق العربي / التكامل الاقتصادي والانفتاح الاندماجي مع إسرائيل في تنمية شاملة.
تعليقي على ذلك: هل العرب عراة تماماًً أمام إيران، مكتسون أمام إسرائيل؟. هل العرب واقعون فقط بين سندان إيران ومطرقة إسرائيل، أم أن هذا السندان وتلك المطرقة نتائج موضوعية للمطارق والسنادين المحلية في البلدان العربية؟.
في مسألة تصنيف الإيرانيين للعرب، هل يعرف من كتب المقال التوزيع الديموغرافي في إيران، كم نسبة الفرس فيه، وكم نسبة الفرس بينهم الذين يحتقرون العرب، وهل الحليف الإسرائيلي سوف يخلص العرب من السنادين والمطارق الخارجية والداخلية، أم أنه سوف يتعاون معها لصالحه. كل ما في أمر التحقير المتبادل بيننا وبين الفرس أنهم يسموننا أعراباًً بدائيين ونسميهم عبدة نار مجوس.
نحن العرب بالنسبة لليهود بالنص التلمودي أغيار، يحل لهم أن يفعلون بنا ما يفعلونه بالفعل وبتشريع مقدس عندهم غير قابل للتطبيع. ملاحظة بينية: هناك من يؤيد التطبيع مفترضاً أن الحكومة الإيرانية منذ الخميني على عداء مبدئي مع إسرائيل. الوضع بالتأكيد ليس كذلك، والحقائق كانت مطموسة مؤقتاًً بالتقية، لكنها تكشفت بعد الغزو الأمريكي للعراق وبعد الثورة الشعبية السورية وبعد انجلاء الغبش عن صورة حزب الله وزعيمه. واقع الحال الآن أن روسيا وأمريكا وإيران وزعماء الطوائف في العراق وسوريا ولبنان واليمن يلتقون مع الأهداف الإسرائيلية في المنطقة، الخلاف بينهم فقط يقوم على اقتسام الجغرافيا العربية المتبقية.
3 - أطرف ما في المقال المذكور جاء هكذا: من فوائد إسرائيل من التطبيع أنه يحل لها تعقيدات الاعتراف ويتيح لها استثمار الأموال العربية والخليجية لبناء كونفيدرالية اقتصادية تستعمر العالم على غرار نظام رأس المال الأمريكي. انتهى
التعليق الختامي: اللهم صل على محمد. الأموال العربية والخليجية التطبيعية تتيح للطرفين تكوين كونفيدرالية تستعمر العالم. هل يفهم من كتب هذا الكلام شيئاًً عن المركزية اليهودية الحالية في الاقتصاد العالمي؟.
أتمنى على الوسائل الإعلامية السعودية بالذات أن تخضع قبل النشر أي مقال أو حوار يمس شأناً مبدئياًً لحوكمة المحتوى فكرياًً ووطنياً وحضارياً، ثم لميزان المصلحة العامة بناءًً على هذه المبادئ، وليس لاعتبارات ظرفية مؤقتة.