محمد أبا الخيل
طوال 15 يومًا قضيتها في مستشفى (مركز كاليفورنيا الباسيفيكي الطبي) في سان فرانسسكو، لم تكن معظم تلك الأيام مكابدة مع الألم، بل كان فيها فرصة كبيرة للمعرفة والملاحظة والتعلم، ابتداءً من محاولة معرفة ما يجري وما يدبر لي من علاجات ومعاملة، إلى معرفة منهجية عمل المستشفى وأنظمته والعلاقة مع الممرضين، فالمستشفى يقوم على منهجية النظم في العمل (Systems theory)، حيث يمثل نظام المعلومات الطبية محور نشاط المستشفى فكل صغيرة وكبيرة تتعلق بالمريض تدخل كبيانات في النظام، ويتولى ذلك الممرض الذي يعد هو ممثل العلاقة مع المريض، فالمريض يحصل على كل ما يريد من المستشفى من خلال الممرض حتى لقاءات الطبيب يجدولها الممرض إذا كانت الحالة لا تسمح بوقت أوسع، ويجدول الممرض زيارات خبيرة المختبر التي تأخذ عينات الدم والسوائل الأخرى، الممرض يتعامل مع المريض كشخص موثوق يسأل كثيرًا ويلاحظ أكثر ويدون كل ذلك في النظام من خلال جهاز كومبيوتر موجود بجانب المريض، هناك في مكان آخر في المستشفى أو خارجه جيش من المختصين في الطب بمختلف التخصصات ومختصون بالتغذية وكيماويات الجسم يطلعون على ملف المريض بصورة متكررة يوميًا لملاحظة ما يضاف من معلومات حول حالة المريض وبناء على ذلك يضعون توصيات تتمثل في إجراءات طبية أو تعديلات في جرعات الدواء أو توصيات غذائية، هذه التوصيات يطلع عليها الطبيب الجراح وطبيب الباطنية ويقررا حيالها ما يجب في صورة توجيهات ينفذها الممرض.
للمستشفى أيضًا نظام آخر فيما يخص التدرج في العناية بالمريض فحيث كانت العملية الجراحية التي خضعت لها تجاوزت مدتها (5) ساعات فذلك يقتضي درجة من العناية القصوى تمثل في وضعي في غيبوبة قسرية لمدة (24) بعد العملية وفي اليوم الذي استعدت به وعيي كنت تحت تأثير جرعات قوية من المهدءات، ومع ذلك أصر الطبيب أن أتحرك مشيًا حول السرير بعد ذلك قرر أنني لم أعد بحاجة للعناية القصوى لذا نقلت لغرفة أخرى تعد أقل عناية خاصة، ووضع لي برنامج حركة تمثل في المشى 4 مرات في اليوم كل مرة تتجاوز 1000 خطوة، بعد يومين وبعد أن أصبحت حركة الأمعاء في نشاط بسيط، نقلت للدور الثالث وهو دور العناية المعتادة بمعنى هناك أتيح لي الأكل المعتاد للإنسان الصحيح.
خلال وجودي في غرفة العناية المعتادة، أصبحت أكثر راحة وقدرة على التواصل مع المحيطين بي دون حواجز الألم، خلالها أصبح بعض الممرضين يفضلون أن أكون ضمن نطاق إشرافهم وخصوصًا وردية التمريض التي تبدأ من الساعة (3) ظهرًا وتنتهي الساعة (11) مساء، فقد عرفت خلال هذه الفترة الممرض (إيميل) وهو رجل في الـ(48) من العمر قال لي: «إنه كان مدير الحسابات في إحدى الشركات الناجحة وكان يتقاضى راتبًا جيدًا ومكافآت إنجاز، وذات يوم شعر بأن إحدى الشركات الكبرى تفاوض ملاك الشركة لدمجها، فذهب لرئيسه الذي قال له: إن الأمر في بداياته وربما لا يحدث ولكن إن حدث سيكون على بعض الموظفين ترك العمل لعدم وجود حاجة لهم «عندها يقول (إيميل)، «أدركت أني في مهب الريح، فقررت أن أغير مهنتي بحيث أصبح صاحب إرادة، فاستقلت من العمل بعد أن ضمنت لأسرتي المنزل والمصرف وذهبت لدراسة التمريض، وهأنا اليوم رجل حر من القلق على المستقبل أعمل بشغف ومتعة».
الممرضة (كامليا) تقول عن نفسها: إنها إضافة لكونها ممرضة فهي خبيرة نظم طبية وهذا هو دوامها في الصباح وتقول كامليا إنها تعيش في ولاية مينسوتا حيث ترعى أمها المصابة بالسرطان وتحضر لسان فرانسسكو (10) في كل شهر فقط لتحصل على دخل يساعدها للعناية بأمها،
الممرض (كورت) اعتقدت من اسمه أنه ألماني فضحك وقال: أنا (فلبيني) اسمي الحقيقي (كورتني)، كورت ابن عائلة ارستقراطية في الفلبين هاجرت عائلته لسان فرانسسكو إثر خلاف في العائلة في بلادهم عندما كان (كورت) في الثامنة من العمر، يقول (كورت): «رجعت العائلة للفلبين بعد أن حسم الخلاف ولكن أنا اليوم لا تروق لي تلك البلاد مع أن والدتي، خصصت لي ملكية إحدى مزارع المانجو التي تدر دخلاً جيدًا، ولكن أنا لست مزارع مانجو..» كورت هو استاذ في كلية التمريض في الصباح ويمارس التمريض كمهنة في المساء.
لاحظت أن الطبيب الجراح الدكتور (لنتلنج) لا يحضر لمعاينتي إلا في الوردية التي يكون فيها الممرض (بيدرو) هو المشرف على حالتي، فسألت الطبيب «لماذا هذا التفضيل لبيدرو؟» فقال: «هذا أفضل ممرض في هذا المستشفى، والمستشفى يعاني من نقص كبير في التمريض، ومع ذلك يصر (بيدرو) على رعاية عدد من الممرضات والممرضين وتدريبهم للحصول على التراخيص الأعلى» وفعلاً كنت ألاحظ أن (بيدرو) كان قليلا ما يكون لوحده فالعادة أن يكون مع ممرضة أو ممرض آخر يساعده، أيضًا قال لي الدكتور (ليتلنج) إن بيدرو استاذ في الأدب في جامعة سان فرانسسكو في الصباح.
نشاط الرعاية الطبية في أمريكا مكلف جدًا، ولكن هذه التكلفة لم تكن من فراغ، فالأنظمة الطبية متقدمة جدًا، والعاملون في النشاط مأهلون بصورة تدعو للعجب، أتمنى أن يكون لدينا مستشفيات بهذا التأهيل.