إن الأمن الوطني بشقيه الداخلي والخارجي وكذلك بمفهومه الشامل ومعناه الواسع اللذين يحيطان بكل أبعاده، يشكل هذا المصطلح أولوية ثابتة ويحظى بأهمية دائمة في حياة الدول والأمم إلى درجة أن جميع الدول تتفق على أن أمنها الوطني وامتداده القومي لهما قدسية خاصة ومكانة عظيمة، تجعل منه أمراً يتحكم في حركة حياتها إلى الحد الذي يتطلب منها أن تكون دائماً في حالة مستقرة من أمن التهديد، إذ إن تهديد الأمن بالنسبة لأية دولة، قد يستدعي منها الدخول في حرب فعلية ضد الطرف الذي يهدد أمنها، مما ترتب عليه ايجاد مؤسسات تُعنى بالأمن وعلى رأسها المؤسسات العسكرية والأمنية.
وترتيباً على ذلك فإن الأمن الوطني يمثل الحاضنة التي تحتضن عناصر القوة الوطنية عبر أبعاده الحضارية والثقافية والعسكرية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والبيئية وغيرها، وبفضل هذه العناصر واستغلالها على النحو الذي يحقق الاستقرار والازدهار والاستمرار يكون بالإمكان المحافظة على المصالح العليا للدولة على المستوى الوطني والأمة على المستوى القومي، ورؤية المملكة القائمة تنبثق من هذه العناصر، وتحقيقها يعتمد على كيفية التعاطي معها من خلال أمنها وتأمينها ورصد المجالات التي تخدم أهدافها وتحدد مكوناتها، وبالتالي إخضاعها للحوكمة والإجراءات التنفيذية مع المزاوجة حيناً والموازنة أحياناً بين الأولويات الوطنية تبعاً لما تفرضه طبيعة التهديدات ومستوى التحديات.
وتوفير الظروف الملائمة لتنفيذ رؤية ما وحوكمتها والسير بها إلى آفاق النجاح يعتبر ذلك بمسيس الحاجة إلى وجود بيئة آمنة ذات عوامل قوة متوازنة ومحاور أمنية متزامنة، تنطلق من مفهوم الأمن الوطني، وما يستند إليه ويظاهره من أمن قومي وانتماء ديني، بحيث تعتبر هذه المنطلقات الأمنية والوحدات الانتمائية هي الوعاء الذي تنمو فيه الرؤى والإطار الذي يضمن لها الاستمرار حسب المخطط المرسوم والاتجاه المعلوم.
وفي سبيل تجسيد الأمن الوطني والقومي تعمل الدولة على إيجاد إطار مؤسسي، تتفاعل في داخله عناصر القوة الوطنية وانعكاساتها الأمنية عن طريق استراتيجية تتجاوز الاهتمام بالجزئيات إلى الكليات، وتجعل من التنمية الشاملة هدفاً لها، مستفيدة من البعد الزماني والحيز المكاني، بالشكل الذي يميز بين الإستراتيجية في مفهومها العام وبين ما هو دون ذلك، كما يترجم تصورات صناع القرار ويحقق تطلعات المجتمع لما يتعين أن يكون عليه المستقبل المنشود، بما في ذلك تحديد المفاهيم والتشريعات الوطنية ووضع آلية لتنفيذها، وفي الوقت نفسه تحويل التخطيط الإستراتيجي إلى خطط وبرامج ومشاريع، يشترك الجميع في تنفيذها والقيام عليها، كما هو الحال بالنسبة لرؤية المملكة وبرنامج التحول الوطني باعتبار التحرر من قيود التنمية والتخلص من منغصاتها من أهم مطالب الأمن الوطني.
ورغم أن الأبعاد التي يتألف منها الأمن الوطني والقومي تخضع لسلم أولويات يتحكم فيه حجم التهديدات وطبيعتها ويؤثر فيه سقف الضرورات فإن التركيز على بعضها وإهمال البعض الآخر يحول دون تحقيق المردود الكلي منها، لكون التكامل بينها يشكل مطلباً أساسياً ينشده كل من السلطة والمجتمع، بوصفها تمثل سلسلة متداخلة الحلقات يؤثر بعضها في البعض الآخر ويتأثر به، وأي ضعف في إحداها يؤدي إلى أضعاف السلسلة كوحدة واحدة، مع الأخذ في الحسبان أن لكل بعد من أبعاد الأمن الوطني والقومي أهمية نسبية واهتمام نسبي، وأي اهتمام استثنائي بأي منها يتعين ألا يكون على حسب الأبعاد الأخرى، بل يكون مكملاً لها ومضيفاً إليها قوة إضافية تنعكس عليها مجتمعة ضمن الأولوية المطلوبة.
ومن غير المقبول تنحية مفهوم الأمن الوطني والقومي جانباً، وفصله عن عوامل تحقيقه وذلك لوجود ارتباط عضوي بين هذا المفهوم ومفهوم القوة، فامتلاك القوة يعني القدرة على تحقيق الأمن الوطني بالنسبة للدولة والأمن القومي بالنسبة للأمة، ومفهوم القوة ليس مقصوراً على القوة العسكرية فحسب، وإنما يشمل ذلك القوة بمعناها الواسع الذي تدخل فيه القوة العلمية والثقافية والاقتصادية والسياسية، حيث إن القوة الأمنية التي تحفظ الأمن الداخلي والقوة العسكرية القادرة على ردع العدوان الخارجي يتضاءل دورها، وتفقد قيمتها في غياب التقنية العلمية والقوة الاقتصادية والأمن الاجتماعي والاستقرار السياسي والازدهار الثقافي.
وعلاقة الأمن بالهوية الوطنية والصفة القومية تفترض وجود الدولة المدركة لقدسية سيادتها على شعبها وأرضها وثرواتها والحريصة على توفير أمن التهديد وإحلاله محل أي تهديد للأمن مهما كان نوع هذا التهديد ومصدره، وهو تهديد عادة ما يصدر من دول أخرى سواء أكانت هذه الدول مجاورة أو بعيدة، بوصف العلاقات بين الدول في أحد جوانبها علاقات مصالح متعارضة وسلوكيات متنافرة، يكون الاعتداء فيها أحد الأشكال الممكنة للسلوك الممارس من قبل دولة ذات أهداف جيوسياسية أو أطماع إقليمية أو عدو مصنوع وتنظيم إرهابي مزروع.
والأحداث الجارية التي تعصف بالمنطقة والمهددات التي تهدد دولها من كل اتجاه، عابثةً بالأمن ومنتهكةً العرض ومستبيحةً الأرض على نحو أصبح معه الأمن القومي العربي ضرباً من التمني بسبب تشظي بعض الدول العربية وانشغال البعض الآخر في أمنه القطري إلى الحد الذي استفحل معه أمر الإرهاب المزروع وأعطى ذلك مشروعية للتدخلات الأجنبية بحجة مكافحة الإرهاب، الأمر الذي تجلى معه فشل النظام العربي وعدم قدرته على مواجهة التحديات والتدخلات حتى بات أكثر أبعاد الأمن القومي حصانة معرضاً للخطر، وهو الأمن الاجتماعي والثقافي اللذان يعتبر تهديدهما تهديداً للوجود والبقاء في زمن ينذر بأن الأمة العربية مهددة في كيانها وتكوينها، ودولها معرضة للتشتت والتشرذم والانقطاع عن انتمائها القومي، وبالتالي الابتعاد عن دينها وتاريخها والانفصال عن وجودها.
ومؤامرة وصم الإسلام بالإرهاب المزروع واعتباره العدو المصنوع لم يكن حدوث ذلك عارضاً أو وهل الصدفة، بل نُسجت خيوطه منذُ زمن بعيد وخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. وتعتبر تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر وغزو افغانستان واحتلال العراق والأحداث الجارية حالياً في المنطقة من أبرز محطات المؤامرة، كما أن تبنيّ مكافحة الإرهاب والنزعة الأمريكية إلى الهيمنة واعتبار العالم كله ساحة لأمنها القومي، والربط بين ذلك وبين نسبة الإرهاب إلى المسلمين وبالتحديد المكون السني، وتصديق هذه الفرية عبر تأجيج الطائفية وإثارة المذهبية واشعال الفتنة بين المكون الشيعي والمكون السني في عدد من الدول العربية، كل ذلك يُشكل أهم سمات المؤامرة وآلية تنفيذها، علاوة على أن الاتفاق النووي بين إيران والقوى الكبرى، وما تخلّل مفاوضاته من أجندة سرية يمثل وجه آخر من أوجه هذه الآلية.
والتنظير لهذه الفوضى الخلاقة كما يسمونها والتخطيط لها ظهرت ملامحه من خلال بعض المصطلحات التي منها: الشرق الأوسط الجديد والنظام العالمي الجديد وحرب الأفكار والعولمة وغيرها، والنظام الصفوي في إيران هو أهم منفذ لهذه المؤامرة والمستفيد الأول منها هو الكيان الصهيوني ولكل مرحلة من المراحل أدواتها من العملاء والخونة المحسوبين على الأمة العربية، ناهيك عن البعثيين والباطنيين والزنادقة والمرتزقة والمغرر بهم الذين انطلت عليهم خدعة الاجهزة الاستخباراتية والاختراقات الجاسوسية وانخرطوا في التنظيمات الإرهابية.
وفي ظل هذا الوضع المؤلم والواقع المظلم الذي تكالب فيه الأعداء على الأمة العربية، وتآمر ضدها الحلفاء، وخذلت نفسها قبل أن يخذلها الاصدقاء، وتحت وطأة الاعتداءات والتدخلات التي تقوم بها التنظيمات الإرهابية المصنوعة والمزروعة من جهة، ويمارسها النظام الصفوي الفارسي والأنظمة العميلة والتنظيمات الدخيلة التي تدور في فلكه من جهة أخرى، كان لابد للمملكة وهي تعيش أجواء الحرب على حدودها، وتتعامل مع الأزمة المنفلتة من قيودها، أن تجد نفسها أمام مسؤولياتها الدينية والوطنية والقومية، الأمر الذي حان معه الوقت لمراجعة سلم الأولويات الوطنية واستعراض قائمة أسبقيات المرحلة الحالية.