د. حمزة السالم
انتشار ثقافة تجميل الأرقام والمؤشرات في غالب قطاعات الدولة والقطاعات الخاصة هي معضلة إستراتيجة. فالمجتمع أخذ بفكرة تجميل المؤشرات والأرقام دون أن يأخذ بالأسباب المخولة للتجميل. فلا بأس بالتجمل أمام الأجنبي، فهذا مطلوب، ولكن تجميل الأرقام لتجميل الحال داخل البلاد، فهذا تضليل وخطأ عظيم. ولم يقف الحد عند التجمل فقط، بل إنه قد غلب على الفكر التخطيطي العام أيضاً.
وهذه سنة الكون الإلهية، فإن الخطأ الفكري يبدأ صغيراً ثم يكبر ويتوسع حتى يُنسى السبب والداعي الذي دفع للخطأ الأول. فبدأت الجامعات بتجميل مراتبها العلمية، وهذا مطلوب، فهو سبب من أسباب جذب الكفاءات، وإن كان هذا السبب لا يعمل لوحده، إلا أنه قد يقال هي وجهة نظر، ولكن الإبعاد كان في طريقة الجامعات في التجمل، والتي كانت أقرب للتحايلية الرخيصة أخلاقياً بأعراف الصروح العلمية والمكلفة مادياً.
واليوم فأنا أعتقد أن طريقتنا في القضاء على البطالة هي صورة من صور تجميل الأرقام التي سيخلف معاضل عويصة ومعقدة. فمخلص إستراتيجية القضاء على البطالة يتخلص في تحقيق مجرد التوظيف على اعتقاد أن السوق سيتكفل بالباقي كالتدريب والخبرة والتطوير.
وهذا اعتقاد خاطئ تماماً، بل السوق سيتكفل بإحباطهم وتركهم عالة حقيقية عائقة على الأجيال بعدهم. فالسوق السعودي فاقد لخصائص التقييم وفاقد مبدأ المكافأة. فراتب لا يتجاوز العشرة الآلاف، لن يكون دافعاً تحفيزياً على التعلم والانضباط عند السعودي غالباً. وهذه معضلة تدور في نفسها. فالأجر يستحيل أن يتجاوز الإنتاجية إلا بخسارة يجب أن يدفعها طرف من أطراف السوق، فهي مشكلة حالية كما أنها بلا شك قنبلة مستقبلية.
وخلق الإنتاجية وتطويرها هو حاصل عوامل تحفيزية وعلمية وإدارية، وكلها معدومة تقريباً في السوق السعودي. فأثر الوعظ وقصص نجاحات فردية، أكثرها مُجمل، لن يعطي الوعد بزيادة الأجر مستقبلاً المصداقية عند غالب السعوديين. والشهادات الجامعية والمهنية من أعلى الجهات أو من أدناها ليس لها أثر علمي على حاملها في سوق لا يقوم بالتقييم الحقيقي للتحصيل العلمي بل يعتمد على الشهادة ابتداء وعلى الشللية والمحسوبية بعد ذلك. كما إن سوق كهذا لها أثر رجعي سيئ على السعودي أثناء تحصيله الشهادة.
ويكفي شاهداً على كل ما سبق أنه من نتائج فقدان السوق لخاصية تقييم الكفاءات، إجراءات مراقبة الغش في الاختبارات واختراقاتها الكثيرة. فالاختبارات في المؤسسات العلمية هي دافع للتحصيل مهمتها الأساسية تزويد الطالب بمهارات يستطيع بها تقيم مدى تحصيله العلمي ليعرف أين يضع نفسه في المستوى التعليمي ثم أين يضع نفسه في سوق العمل. فلا يضعها في مستوى أعلى من مؤهلاته الحقيقية فيكشفها فيطرد ويتعثر بعد ذلك. ولهذا لا يغُش الطلبة الغربيون ولا يكترث الدكاترة والأساتذة بالمراقبة ولا بالحفاظ على الأسئلة. فتقييم دراسة الطالب هي السوق عندهم لا الجامعة ولا المعهد.
ثقافة الغش في الاختبارات وثقافة تجميل الأرقام والمؤشرات بعضها من بعض، فجميعها ناتج عن فقدان السوق لخاصية تقييم الكفاءات.
وفقدان السوق إحدى خصائصه الكونية هو بسبب المستشار الأجنبي. ومشكلة المستشار الأجنبي فرع من مشكلة سلبيات النفط. فما زال لدينا وقت للتصحيح.