هاني سالم مسهور
قبل عامين من الآن خرجت إيران مزهوةً بإسقاط العاصمة العربية الرابعة في إشارة لانقلاب الحوثيين في صنعاء لتلتحق ببغداد ودمشق وبيروت، كان ذلك اليوم صاعقاً عند الكثيرين الذين لم يكونوا يتوقعون هذا التمدد الإيراني الواسع في عواصم عربية لها عمقها القومي، ومن المؤكد أن الإيرانيين لم يحاولوا يوماً إخفاء نواياهم تجاه الدول العربية منذ اندلاع الثورة (الخمينية) في 1979م، فإيران قامت على مبدأ معلن هو تصدير الثورة، وعلى ذلك فإن كل خطواتها تعزز ذلك المبدأ كنهج تسير عليه حتى وإن تحملت العقوبات الدولية.
العمل الإيراني في سوريا والعراق واليمن تحول إلى أكثر من مجرد سيطرة على القرار السياسي في تلك الدول فالإيرانيون عازمون على بناء جيوش على غرار (الحرس الثوري الإيراني) وهذا ما كشفه قائد الحرس الثوري السابق العميد محسن رفيق دوست، عن العمل على تأسيس الحرس الثوري العراقي، بينما تحدث قائد القوات البحرية في الحرس الثوري أن قواته تدرب عناصر أجنبية في جزيرة فارور قبالة الجزر الإماراتية المحتلة.
هذا التوجه جاء بعد أن قامت قيادات من (الحشد الشعبي العراقي) بزيارة للعاصمة الإيرانية طهران وأجرت مفاوضات مباشرة مع عدد من المسؤولين الإيرانيين، وكان عضو لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان الإيراني محمد صالح جوكار قد كشف لوسائل الإعلام في منتصف مايو - (أيار) 2016م عن مفاوضات أجراها قائد «سرايا الخراساني» علي الياسري لتشكيل الحرس الثوري وكانت قد نقلت وكالات أنباء إيرانية عن جوكار تأكيده «ضرورة تأسيس الحرس الثوري في العراق»، وفي تصريحات مشابهة لرفيق دوست قال جوكار حينها إن «مؤسسة الحرس الثوري حققت حتى الآن إنجازات مختلفة، وإن أرادت إحدى الدول تأسيسه سنقدم مشورتنا»، وأضاف جوكار: «بإمكان العراق أن يؤسس الحرس الثوري، وبإمكان الدول الأخرى أن تأخذ نموذج تدريبه وبنائه من إيران».
ما حدث في العراق يحدث في سوريا واليمن، فالخطوات تجاه تأسيس (الحرس الثوري) تنطلق بخطوات عملية، وحتى زيارة وفد الحوثيين إلى بغداد تأتي في هذا الإطار وضمن ترتيبات تقوم على ما يمكن توصيفه بـ «استنساخ» التجربة الإيرانية في العراق، فإيران التي تدعم الحكومات المتتالية في العراق منذ الغزو 2003م، بل وتتدخل في تعيينها بشكلٍ أو بآخر هي التي لها صوتٌ عسكريٌّ قويٌّ داخل العراق أيضاً، هي التي تضخُّ أموالاً هائلة وتنتفعُ من كلّ هذا لا شكّ بوضع العراق في مربع أمنها القومي باعتبارها حديقتها الخلفية، بالطبع لا تسيطر إيران على العراق سيطرة كاملة، ولا يمكن الحديث عن هذا وإنما تحاول إيران السيطرة الكاملة على العراق، نجحت في بعض الأحيان في السيطرة على قطاعات كاملة وفي بعض الأحيان لم تنجح، إلا أنها وبجدارة أصبحت أبرز لاعب على الأرض العراقية في الوقت الحالي.
نجحت إيران في السيطرة على العراق عبر استراتيجية اعتمدت على ثلاثة محاور أولها الفيالق والكتائب الشيعية في العراق بعضها جاء بعد الغزو الأمريكي للعراق، وبعضها الآخر جاء قبل ذلك بوقتٍ كبير مثل فيلق بدر الذي تأسس عام 1981م وأغلب هذه الكتائب والفيالق تعتمد على الإمداد الإيراني بالمال والسلاح لها، وبرغم تكرار الأمريكيين مرارًا خوفهم من تنامي القدرات العسكرية للميليشيات العسكرية في العراق والمدعومة من إيران، فقد اعتبر الرئيس السابق لـ CIA ديفيد بتريوس أن الخطر الحقيقي على المدى الطويل في العراق والمنطقة كلها يتأتى من القدرة المتزايدة لميليشيات الحشد الشعبي المدعومة من إيران، وليس من داعش!
الاعتماد العسكري على إيران يتجاوز كل هذه التدخلات لنقطتين اثنتين من الأهمية بمكان:
الأولى: أنَّ العديد من المسؤولين العراقيين يعترفون بصراحة بطلبهم الدعم من إيران، على سبيل المثال مستشار الأمن القومي فالح فيَّاض قال إن العراق سيطلب الدعم من إيران ومن أمريكا، والاعتماد الأول للعراق حاليًا على الحشد الشعبي.
الثانية: أنَّ الحكومة العراقية بالفعل تعتمد على الحشد الشعبي بشكلٍ كامل، فقد خصصت في ميزانية 2015م (60 مليون دولار) لبناء قدرات الحشد الشعبي. بالمجمل يتقاضى كل فرد في الحشد الشعبي (500 دولار شهرياً)، وأصبحت قوات الحشد الشعبي تشارك مع الجيش العراقي في جبهات متعددة داخل العراق في مواجهة داعش، ناهيك أنها أكبر عددًا من أفراد الجيش العراقي!
المحور الثاني هو الاقتصاد الذي يفاجئنا فيه أن العراق يستورد 72% من مجموع السِّلع الإيرانية المحلية، كما يتلقى 70% من الخدمات الفنيَّة والهندسية لإيران، وستستمر العلاقات التجارية بين طهران وبغداد في نمطها غير المتكافئ وفي ميل كفتها لصالح طهران، وبذلك يحتل العراق الشريك التجاري الأول لإيران وقد بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين عام 2014م (13 مليار دولار).
المحور الثالث هو التشيع وبدأ تأثيره منذ الثورة الإيرانية بشكل مباشر عبر حزب الدعوة الإسلامية فقد تأسس عبر محمد باقر خلال خمسينيات القرن العشرين، أيَّد الحزب الثورة الإيرانية، لكنه ظل محتفظاً بمرجعيته داخل العراق، ومع الحرب الإيرانية - العراقية أيَّدَ الحزب إيران في حربها على العراق ما جعل نظام صدام حسين يُصدِر قرارًا بإعدام كل من ينتمي للحزب، وكان على رأس من أعدموا عام 1980م محمد باقر الصدر، بعض قيادات الحزب هربت لسوريا والبعض احتوتهُ إيران منهم رئيس الوزراء السَّابق نوري المالكي الذي انضمّ لحزب الدعوة منذ 1970م.
ومن هنا يمكن فهم العلاقة بين حزب الدعوة وإيران، الحزب الذي لم يعترف بولاية الفقيه بأيّ وجه، كان هو الحزب نفسه الذي تلقى دعماً إيرانيًّا حتى ما بعد الغزو العراقي فهو الحزب الوحيد الذي سيطر على الحكومة في جميع دوراتها منذ غزو العراق عام 2003م وحتى الآن بحكومة حيدر العبادي وهو كذلك قيادي كبير بالحزب، بطبيعة الحال هناك «صراع المرجعيات» بين إيران والعراق وحيث تعتبر النجف وحوزتها العلمية منبع المرجعيات العراقية الكُبرى ومركزها، بينما تعتبر مدينة قمّ وحوزتها العلمية منبع المراجع الشيعية التي تَعلَّم وتَخرَّج منها المرشد الحالي خامنئي، صراع المرجعيات ومحاولات من إيران لعزل مرجعية السيستاني ومحاولة فرض مرجعية الوليّ الفقيه من جديد برجل من الطراز الأول في إيران، خصوصًا في ظلّ تصريحات لمسؤولين إيرانيين عن مدى تحكمهم في العاصمة بغداد واستغاثات بعض العشائر والقبائل السنية بأنَّ إيران تسيطر على الوضع في العراق. وبهذا يكون العراق مهيئاً للانتقال من الدولة العراقية إلى ولاية الفقيه.
خطورة الطرح الإيراني تكمن في جملة الأحداث والتطوّرات الميدانية والسياسية التي تعيشها المنطقة، باعتبارها استثماراً ناجحاً لإيران في تنفيذ أهدافها وسياساتها، أن اختيار العراق كنواة لتشكيل ذلك الحرس الثوري ليس اعتباطاً، إنما باعتباره الحلقة الأضعف المحكومة بسلطتهم شبه المطلقة على أحزابه وقادته وحكوماته منذ عام 2003 حتى الآن، وبالتزامن مع الظروف السياسية والأمنية المعقدة في المنطقة تجد إيران الوقت مناسبًا لإعلان مرحلة تأسيس الحرس الثوري العراقي، لمَ لا والحكومات العراقية المتعاقبة ربطت النظام الاقتصادي والمالي مع إيران، لتموّل الأخيرة بها تلك الميليشيات، التطورات الجارية داخل الأراضي العراقية، لاسيما في السنوات القليلة الماضية، إلى رغبة إيران في ترسيخ حضورها في العراق عبر تحويل مليشيات الحشد الشعبي إلى مؤسسة عسكرية معترف بها، بالتوازي مع إضعاف دور الحكومة العراقية المركزية.
ما يحصل في العراق هو ما يحصل تماماً في سوريا واليمن، فخلخلة التركيبة البنيوية لهذه الدول عبر التدخل العميق في نواتها السياسية تحصل من خلاله إيران على قدرتها على الاستحكام في مفاصل هذه الدول وتسييرها باتجاه ما يحقق لها رغباتها التوسعية، هذا النهج وعلى رغم سقوط الآلاف من الضحايا في طريق تحقيقه يعطينا مدى خطورته على الدول العربية المستهدفة، رغبة إيران في ترسيخ حضورها في العراق ولبنان وسوريا واليمن، عبر تحويل مليشيات «الحشد الشعبي» و»الحوثيين» و»حزب الله» إلى «مؤسسات عسكرية» معترف بها، بالتوازي مع إضعاف دور الحكومات، وتزايد طموح قادة تلك المليشيات السياسية، وعجز الحكومات عن التحكم في مسار هذه المليشيات يمّكن للتدخلات الإيرانية كل ما تريد.
التجربة الإيرانية في التحكم بالعراق تعطي أيضاً صورة أخرى للمشهد القاتم عبر ربط النظام الاقتصادي والمالي بطهران، وتعتبر هذه واحدة من أكثر التجارب تقدماً عن غيرها، هذا ما تصنعه إيران برغم عوامل المقاومة التي تفرزها المجتمعات ضد هذا التمدد والتغول فيها، فبرغم كل أساليب البطش والقمع المستخدمة ما تزال المقاومة الذاتية تستعصي على الإيرانيين ابتلاع هذه الدول، وفي المقابل فإن من الجدارة تحصين المجتمعات العربية الأخرى التي تستهدفها إيران وعلى رأسها دول المغرب العربي.