أميرة بنت سليمان القفاري
مدخل:
إن تضليل عقول البشر هو أداة قهر.
باولو فريري
مُوجعٌ أن تكون أنت جنديًا في حرب ذاتك من حيث لا تشعر..
ومُفزعٌ أن يتزين الرق المعاصر بالمساحيق، ويربط رقابنا بشرائط وردية وفيونكة، ليقودنا بعيدًا عن بشاعة الواقع.
وما زلت أتذكر بألم ذلك اليوم الذي طارت به الركبان فرحة بفيديو لملكة الجمال الإيرانية «مهلاقا جابري» وهي تبحث عن علاج للتشققات «stretch mark» المنتشرة بجسدها كالخرائط، وكأنها غيرت زاوية الرؤية، وفكت القيود الخانقة، وهبطت بالمُظللات إلى أرض الواقع..!
لمَّا كنت أقرأ كلمة الفيلسوف جان بوديار: (ليس من إغراء كالبراءة)، لم أفهمها جيدًا حتى رأيت كيف يكون الإغراء مبتذلاً يختار زوايا التصوير الوضيعة عمدًا، ويوم أن كنت أقرأ لعالم الاجتماع بيير بورديو في توصيفه لكيفية حدوث «العنف الرمزي « الذي يعمل بخفية وهدوء، لهدم الإنسان بفرض معايير طبقية وذوقية تقصيه عن النموذج؛ قصد تدمير نفسيته وفقدان تقديره لذاته، وإخضاعه لأهداف ما، ووضع المرأة خاصة في حالة دائمة من انعدام الثقة الجسدية، لم أتوقع أن تكون ساحة هذا العنف الوردي الناعم هي أجهزتنا التي نشهد فيها أبشع مظاهر العنف الرمزي من خلال حساب فنانة أو فانشيستا بلاستيكية في مواقع التواصل، ثم أحمق مظاهر الاستسلام للعنف والتخدير بجلد الذات في تعليقات المتابعين، أو بسؤال صادم يردني عبر موقع ask.me «أكرهني كلما رأيت فتاة جميلة؛ ماذا أفعل أن لم يهبني الله الجمال؟»، والمُستجيب للعنف الرمزي كمن يحكم على نفسه بأن يعيش طوال عمره في حرب نفسية مرهقة.
ليس عبثًا ما يحدث؛ فالصور، والإعلان، والموضة، ونكت الركب السوداء، تعد رسائل إشهارية تحمل هزيمة مبطنة وخلخلة نفسية ينتج عنها اللطم الأنثوي في تعليقات إنستجرام، وازدحام عيادات التجميل، والسؤال المُوجع أعلاه، وهو ما جعل الكاتبة الأمريكية نعومي وولف تُصدر عام 1991م كتابها الموسوم بـ «أسطورة الجمال: كيفية استخدام صور الجمال ضدّ النساء»، لوضع المجهر على النموذج الإعلامي للجمال والتحكم عن بُعد بالمرأة، والتفتت فيه نعومي لجانب مهم تناساه المهتمون المنافحون عن المرأة، وهو تحريرها مما تطلق عليه «الصور الشائعة حول الجمال الأنثوي، التي تثقل كاهلنا بوحشية»، لذا تطالب نعومي بالتحرر من أسطورة الجمال، وترى أن «النساء يمتلكن المال والسلطة والفرص والاعتراف القانوني، أكثر بكثير من ذي قبل، لكن فيما يخصّ شعورنا تجاه أجسادنا، قد نكون في حالٍ أسوأ من جداتنا غير المُحرّرات»، والنموذج الإعلامي للمرأة يكبلها بقيود تشغلها عن مهمتها الحقيقة في الحياة، ويجعلها غير راضية عن ذاتها التي لا توافق معايير الجمال الخيالية والمثالية التي تفرضها أسطورة الجمال، وتركض خلف سراب زائف، وإدمان تدركه من أدمنت عيادات التجميل، وتشهد عليه الأسئلة الموجهة لأطباء التجميل في مواقع التواصل الاجتماعي نادمة وشاكية من تشوه، ومضاعفات، ومظاهر بلاستيكية غير مريحة.
ومع هذا الانفتاح الهادر الذي تولى كِبره الإعلام، ومع الاستعمار الجمالي ووفرة العقول التي تلقف كل ما يأفك الإعلام، لا أعجب حين تشك الجميلة جمالاً فطريًا بجمالها، فقد أصبح جسد المرأة (ملطشة) لصانعي ومصدري الجمال لنا، فقبل أعوام كانت الرشاقة هي نموذج الجمال الذي تعيش الصبية مجاعة في سبيله وهي راضية، ثم حضر النموذج (الكرديشاني) المتورم مُحدثًا ضجة جعلت المهزومات يخلعن لباس القيم من أجل قطعة سيلكون قد تصبح بعد سنوات معيار قبح، ونحن نظل نركض خلف معايير متقلبة توجه الأذواق المهزومة، وتبلغ الحرب النفسية ذروتها حين يكون الرجل جنديًا فيها غافلاً أو عامدًا، بترويجها في المجالس للترسخ، وبالمقارنات السطحية وغير الموضوعية والمتكافئة بين من اختارها بمعايير بناء أسرة، ونموذج لصناعة شهرة على حساب القيم، وتنحدر المقارنة أكثر إلى حد مخيف حين تكون خفية مع نموذج البورنوغرافيا، وتُزهد بالواقع الطبيعي والنقي.
وحتى نواجه هذه الحرب النفسية علينا أن ندرك أن ما نراه غالبًا ليس الواقع، وإنما الزاوية التي يريد المصور أن نراها لتسطيح الجمال وصرف النظر عن الجمال الحقيقي، ولا جمال يسمو بنا مثل أن نصمد أمام مد الزيف بخلقة الله لنا وبمعايير جمالنا الخاصة، وأن نفرق بين الطبيعي والمزيف، والجميل والوضيع، فالمتلاعبون بالعقول - كما يسميهم هربرت شيللر - سيضعون الكاميرات في زوايا جمالية مبتذلة، لكن لن يخبروك عن عمليات التجميل ومضاعفاتها، ولا عن الميك آب وطبقاته، ولا وصلات الشعر والإضاءة والفوتشوب، وعلينا أن نقوي مناعتنا الفكرية، ونتسلح بالقوة النفسية، ونتحصن بالإيمان والثقة، ونستند إلى مرجعياتنا الموضوعية العادلة التي تسمو بنا وجعلت الجمال معيارًا من عدة معايير سقفها الأعلى هو الدين «واظفر بذات الدين تربت يداك»، وهي التي تغير زاوية النظر وترفعها إلى القيم العليا والدائمة «وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ»، فالسمو قرين السرائر لا الظواهر، والجمال رُبط بالأفعال والسلوكيات وليس بالمظاهر كالصبر الجميل، والهجر الجميل، والصفح الجميل، وكلما غضضنا البصر تفتح القلب واحتفي بالواقع، والأمان النفسي وتقدير الذات مرهون بـ (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ)، فإذا أظلمت العين وقصر مدها؛ أضاء الجمال واتسع الرضا.
ليست دعوة للاستسلام، وإنما دعوة مخلصة للوعي بالجمال الحقيقي والبحث عن الجمال في حدود الممكن والمعقول، والترفع عن الركض المُرهق خلف «الجمال المؤلم» كما تسميه نعومي وولف، وكل أنثى جميلة إذا عرفت أن تبرز مواطن الجمال فيها، وسعت لملئ مواطن الضعف وتعويضها، وكنت وما زلت - وإن احتفيت بالجمال - أرى أن (الأنوثة) هي أُمُّ الجمال والسحر الحلال، والقوة الناعمة - كما يصطلح جوزيف ناي - التي تنسف صرامة المعايير المألوفة حتى أسبِّح، وأردد قول أحمد شوقي:
«صوني جمالك عنا إننا بشرٌ
من التراب وهذا الحسن روحاني»
ومُختصر العبرة والحذق، والحق الذي لا مرية فيه ويثبته الواقع لمن تأمل ببصيرة، أن الأنثى الذكية عليها إلا تعوّل على جمالها إن كانت جميلة، ولا تركن للعادية إن كانت عادية؛ فالجمال يبهت بالاعتياد، ويذبل مع الزمن، ويبقى للأنوثة دلالها، وتجددها، ودهشتها، وجمالها الأشمل في السلوك، والكلام، والمظهر، والمهارات، ولغة الجسد، وبها تُرى الأنثى جميلة ولا يُدرك سر جمالها، وأجمل الجمال هو الجمال الذي يحيرك ويعز عليك لغزه وفك رموزه، فذاك هو «الجمال الصعب»، والدهشة التي لا تبلى.
مخرج:
«في حال كنت تتساءلين عن سبب إعجابي بك، أنتِ مشغولة بكونك على سجيتك حتى إنكِ لا تلاحظين كم أنتِ مُبهرة»
جون غرين
«ما تخبئه لنا النجوم»