أ.د.سليمان بن عبد الله أبا الخيل
إن للكعبة مكانة كبيرة، ومنزلة عظيمة، لا تُقارن بغيرها أبدًا من الأماكن، وذلك لما خصها الله به من الشرف، وفضلها على سائر الأماكن والبقاع، وجعلها مهوى أفئدة المسلمين جميعًا، فقد استجاب الله لنبيه إبراهيم عليه السلام لما دعا بذلك، قال تعالى: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37].
قال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد (1/53): ولهذا أخبر سبحانه أنه مثابة للناس، أي يثوبون إليه على تعاقُب الأعوام من جميع الأقطار، ولا يقضون منه وطرًا، بل كلما ازدادوا له زيارة ازدادوا له اشتياقًا.
لَا يَرْجِعُ الطَّرْفُ عَنْهَا حِينَ يَنْظُرُهَا
حَتَّى يَعُودَ إِلَيْهَا الطَّرْفُ مُشْتَاقًا
فللَّه كم لها من قتيل وسليب وجريح، وكم أُنفق في حبها من الأموال والأرواح، ورضي المُحب بمفارقة فلذ الأكباد، والأهل والأحباب والأوطان، مُقدمًا بين يديه أنواع المخاوف والمتالف والمعاطف والمشاق، وهو يستلذُّ ذلك كله ويستطيبه، ويراه -لو ظهر سلطان المحبة في قلبه- أطيب من نعم المُتحلَّية وترفهم ولذاتهم.
وَلَيْسَ مُحِبًّا مَنْ يَعُدُّ شَقَاءَهُ
عَذَابًا إِذَا مَا كَانَ يَرْضَى حَبِيبُهُ
وهذا كله سر إضافته إليه سبحانه وتعالى بقوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} [الحج: 26]، فاقتضت هذه الإضافة الخاصة من هذا الإجلال والتعظيم والمحبة ما اقتضته.أهـ
وخصَّ الله هذه الكعبة المشرفة بأن شرع لعباده التوجه إليها في جميع صلواتهم فرضها ونفلها، فأوجب عليهم استقبالها، والتوجه إليها، فهي قبلتهم حيثما كانوا، قال تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]. فمن صلى لغير جهة الكعبة لم تصح صلاته، لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده.
وخصَّ الله هذه الكعبة المشرفة أيضًا بأن فرض على عباده قصدها، وشد الرحل لأجل أداء فريضة الحج، أحد أركان الإسلام، ومبانيه العظام، فلا حج إلا بالطواف حول الكعبة، والتنقل بين مشاعر الحج كعرفة.
وهي أول بيت وضع للناس، قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96، 97].
وفي الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه قال: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَوَّلِ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ؟ قَالَ «الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ» قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى» قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: «أَرْبَعُونَ عَامًا، ثُمَّ الْأَرْضُ لَكَ مَسْجِدٌ، فَحَيْثُمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ فَصَلِّ».
وقد فضل الله المسجد الحرام بفضائل كثيرة، وخصها بمزايا عديدة، ومن تلك الفضائل والمزايا أنه بلد آمان، ومكان أمن وإيمان، وطاعة للرحمن، من دخله كان آمنًا، قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 96، 97]، وامتن الله على عباده بأن جعله حرمًا آمنًا، فقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} [العنكبوت: 67]، وامتن الله على كفار قريش وذكَّرهم بنعمة الأمن والشبع، فقال تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 3، 4]. فالله يذكِّرهم بهذه النعمة العظيمة التي جعل بها لهم حرمًا آمنًا، أمِنوا فيه من السبي والقتل والغارة والحروب، والخوف والذعر، والإخراج من البلاد والأموال، ومنَّ عليهم بالطمأنينة والسكينة، والراحة والعافية، والتمتع بالأموال والأزواج والأولاد، وأشبعهم من جوع، ورزقهم من الثمرات والخيرات، استجابة لدعوة نبي الله إبراهيم عليه السلام لما دعا: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [البقرة: 126].
ومن مزايا هذا البلد المبارك أنه بلد حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، ففي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْفَتْحِ -فَتْحِ مَكَّةَ-: «إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَمْ يَحِلَّ لِي إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلَا يَلْتَقِطُ إِلَّا مَنْ عَرَّفَهَا، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا»، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِلَّا الْإِذْخِرَ، فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَلِبُيُوتِهِمْ، فَقَالَ: «إِلَّا الْإِذْخِرَ».
ومن فضائل الحرم مضاعفة الصلاة فيه بمائة ألف صلاة فيما سواه من المساجد والبقاع، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة، ومسلم من حديث ابن عمر، وميمونة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ، إِلا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ»، وفي مسند الإمام أحمد، وسنن ابن ماجه من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ، إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ».
وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أن المضاعفة شاملة لجميع الحرم، ومسجد الكعبة داخل فيه.
وفي مقابل ذلك تعظَّم فيه السيئات والمنكرات، ففعلها فيه من أشد الخطر، وأعظم الضرر على المسلم، فإن المنكر والمعصية والخطيئة تضر المسلم في دينه، ويستحق العقوبة عليها ما لم يتب منها، ووقوعها في الحرم أشد وأضر عليه في دينه، وفي آخرته ما لم يتب منها، قال تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25].
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن هذه الآية تدل على أن الإنسان يعاقب على ما ينويه من المعاصي والمنكرات في الحرم بمكة وإن لم يعملها.
ثبت عند أحمد في مسنده (7/155) رقم (4071) عن عبدالله بن مسعود أنه قال في قوله عز وجل: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} [الحج: 25]، قال: «لَوْ أَنَّ رَجُلًا هَمَّ فِيهِ بِإِلْحَادٍ وَهُوَ بِعَدَنِ أَبْيَنَ، لَأَذَاقَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَذَابًا أَلِيمًا». وفي رواية عند ابن أبي شيبة في مصنفه (3/268) أن ابن مسعود قال: «مَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ حَتَّى يَعْمَلَهَا، وَإِنْ هَمَّ وَهُوَ بِعَدَنِ أَبْيَنَ: أَنْ يَقْتُلَ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، أَذَاقَهُ اللَّهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ثُمَّ قَرَأَ: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ}».
قال ابن مفلح في الآداب الشرعية والمنح المرعية (3/430) قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية: المعاصي في الأيام المعظَّمة، والأمكنة المعظَّمة تُغلَّظ معصيتها وعقابها بقدر فضيلة الزمان والمكان انتهى كلامه، وهو معنى كلام ابن الجوزي وغيره. أهـ
وقال ابن القيم في زاد المعاد (1/51-52): ومن خواصه أنه يُعاقب فيه على الهمِّ بالسيئات وإن لم يفعلها، قال تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25]، فتأمَّل كيف عدَّى فعل الإرادة هاهنا بالباء، ولا يُقال: أردتُ بكذا إلا لما ضُمِّن معنى فعل (همَّ)، فإنه يقال: هممت بكذا، فتوعد من همَّ بأن يظلم فيه بأن يُذيقه العذاب الأليم.
ومن هذا تُضاعف مقادير السيئات فيه لا كمياتها، فإن السيئة جزاؤها سيئة، لكن سيئة كبيرة جزاؤها مثلها، وصغيرة جزاؤها مثلها، فالسيئة في حرم الله وبلده وعلى بساطه آكد وأعظم منها في طرف من أطراف الأرض، ولهذا ليس من عصى الملك على بساط ملكه كمن عصاه في الموضع البعيد من داره وبساطه، فهذا فصل النزاع في تضعيف السيئات، والله أعلم.أهـ
وقال ابن كثير في تفسيره (5/411): وهذا من خصوصية الحرم أنه يُعاقب البادي فيه الشر، إذا كان عازمًا عليه، وإن لم يوقعه.أهـ
وقال ابن كثير أيضًا في تفسيره (5/ 412) بعد أن ساق جملة من الآثار الدالة على معنى الإلحاد في الحرم: وهذه الآثار وإن دلت على أن هذه الأشياء من الإلحاد، ولكن هو أعم من ذلك، بل فيها تنبيه على ما هو أغلظ منها، ولهذا لمَّا همَّ أصحاب الفيل على تخريب البيت أرسل الله عليهم طيرًا أبابيل {تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الْفِيلِ: 4، 5]، أي: دمَّرهم، وجعلهم عبرة ونكالاً لكل من أراده بسوء، ولذلك ثبت في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يَغْزُو هَذَا الْبَيْتَ جَيْشٌ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنَ الْأَرْضِ خُسِف بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ...» الحديث.أهـ والحديث في الصحيحين.
وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/317): لكن السيئة تعظم أحيانًا بشرف الزمان أو المكان كما قال تعالى: {إن عدة الشهور عندالله اثنا شهرًا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم}.. ثم قال: قال الله تعالى: {الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج}، قال ابن عمر: الفسوق ما أصيب من معاصي الله صيدًا كان أو غيره، وعنه، قال: الفسوق إتيان معاصي الله في الحرم.
وقال تعالى: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم}، وكان جماعة من الصحابة يتقون سكنى الحرم خشية ارتكاب الذنوب فيه، منهم: ابن عباس، وعبدالله بن عمرو بن العاص. وكذلك كان عمر بن عبد العزيز يفعل.
وكان عبدالله بن عمرو بن العاص يقول: الخطيئة فيه أعظم.
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لأن أخطئ سبعين خطيئة -يعني بغير مكة- أحب إليّ من أن أخطئ خطيئة واحدة بمكة.
وعن مجاهد قال: تضاعف السيئات بمكة كما تضاعف الحسنات.
وقال ابن جريج: بلغني أن الخطيئة بمكة بمائة خطيئة، والحسنة على نحو ذلك.
وقال إسحاق بن منصور: قلت لأحمد: في شيء من الحديث إن السيئة تكتب بأكثر من واحدة؟ قال: لا، ما سمعنا إلا بمكة لتعظيم البلد.أهـ
وقال سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبداللطيف آل الشيخ -رحمه الله- في فتاويه ورسائله (3/40): وقد صرَّحت الأدلة أن المعاصي في الأيام المعظمة، والأمكنة المعظمة تغلظ معصيتها وعقابها بقدر فضيلة الزمان والمكان، قال الله سبحانه: (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نُذقه من عذاب أليم).أهـ
وقال سماحة الشيخ عبدالعزيز ابن باز -رحمه الله- في مجموع فتاواه (3/389): أما السيئات فالذي عليه المحققون من أهل العلم أنها لا تضاعف من جهة العدد، ولكن تضاعف من جهة الكيفية، أما العدد فلا؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا}.
فالسيئات لا تضاعف من جهة العدد لا في رمضان ولا في الحرم ولا في غيرها، بل السيئة بواحدة دائمًا وهذا من فضله سبحانه وتعالى وإحسانه، ولكن سيئة الحرم، وسيئة رمضان، وسيئة عشر ذي الحجة أعظم إثمًا من السيئة فيما سوى ذلك، فسيئة في مكة أعظم وأكبر وأشد إثمًا من سيئة في جدة والطائف مثلاً، وسيئة في رمضان، وسيئة في عشر ذي الحجة أشد وأعظم من سيئة في رجب، أو شعبان ونحو ذلك.
فهي تضاعف من جهة الكيفية لا من جهة العدد، أما الحسنات فهي تضاعف كيفية وعددًا بفضل الله سبحانه وتعالى، ومما يدل على شدة الوعيد في سيئات الحرم، وأن سيئة الحرم عظيمة وشديدة، قول الله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}، فهذا يدل على أن السيئة في الحرم عظيمة حتى إن في الهمِّ بالسيئة فيه هذا الوعيد، وإذا كان من هَمَّ بالإلحاد في الحرم متوعدًا بالعذاب الأليم، فكيف بحال من فعل في الحرم الإلحاد بالسيئات والمنكرات، فإن إثمه يكون أكبر من مجرد الهمِّ، وهذا كله يدلنا على أن السيئة في الحرم لها شأن خطير، وكلمة: (إلحاد) تعمُّ كل ميل إلى باطل سواء كان في العقيدة أو غيرها؛ لأن الله تعالى قال: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ}، فنكَّر الجميع، فإذا ألحد أحد أي إلحاد فإنه متوعد بهذا الوعيد، وقد يكون الميل عن العقيدة إلى الكفر بالله فيكفر بذلك فيكون ذنبه أعظم وإلحاده أكبر.
وقد يكون الميل إلى سيئة من السيئات كشرب الخمر والزنا وعقوق الوالدين أو أحدهما فتكون عقوبته أخف وأقل من عقوبة الكافر.
وإذا كان الإلحاد بظلم العباد بالقتل أو الضرب أو أخذ الأموال أو السب أو غير ذلك فهذا نوع آخر، وكله يسمى إلحادًا، وكله يسمى ظلمًا، وصاحبه على خطر عظيم، لكن الإلحاد الذي هو الكفر بالله والخروج عن دائرة الإسلام أشد من سائر المعاصي وأعظم منها، كما قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}.أهـ
والذي يلحظ اليوم أن بعض الفئات تلحد في حرم الله، سواء بإظهار الشرك أو البدع، أو المعاصي والكبائر، بل منهم من جعل الحج لرفع الشعارات الشركية، والرايات البدعية، والخلافات الطائفية، لزرع الفتنة والخلاف والشقاق بين المسلمين، وتهديد أمن الحج والحجاج، والمحاولة في بث الخوف والذعر بين حجاج بيت الله الحرام، وما ذلك إلا لأطماع سياسية، وتحكمات طائفية، ونزعات عرقية، وشعوبية فارسية.
وهو ما نراه اليوم من محاولات وعبث من المد الطائفي الصفوي الإيراني الذي يحاول تهديد أمن واستقرار المنطقة، وهو يتصرف بلا أخلاقيات ولا اتزان ولا عقلية.
ولا شك أن التعصب الطائفي الصادر من إيران ليس جديدًا بل وجد عبر مراحل وأزمنة متنوعة في التاريخ، ولكن الله يخذلهم ويردهم على أعقابهم خاسرين خاسئين، يقول الشعبي رحمه الله عن الرافضة كما نقله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في منهاج السنة النبوية (1/34): (وَدَعْوَتُهُمْ مَدْحُوضَةٌ، وَرَايَتُهُمْ مَهْزُومَةٌ، وَأَمْرُهُمْ مُتَشَتِّتٌ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ، وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ). وقد زاد خطرهم ومحاولتهم النيل من عقيدة الأمة في العصر الحديث، وذلك عبر طرق ومناهج متنوعة ومتعددة نرى اليوم أثرها وتأثيرها من خلال ما تقوم به إيران الفارسية من مخططات عجيبة غريبة لتحقيق أهداف توسعية واضحة وذلك عن طريق إثارة الفتن والقلاقل، واحتواء بعض الجماعات والتنظيمات والأحزاب التي يستغلونها للوصول إلى مطامعهم المشينة، بل وأبعد من ذلك دعم كل فئة مارقة خارجة عن دين الله ومعادية لبلاد التوحيد وقبلة المسلمين ومهوى أفئدتهم المملكة العربية السعودية، كل يوم نطالع ما هو أشد وأسوأ مما يقومون به في هذا الاتجاه، ولكن الله سبحانه وتعالى كشف أمرهم وأبطل كيدهم، وتصدت لهم هذه الدولة حفظها الله بحزم وعزم وقوة بقيادة وتوجيهات خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز حفظه الله.
ولابد أن نعلم بأن الولاية المسماة بولاية الفقيه ولاية فاسدة وخبيثة ولها مقاصد وأهداف خطيرة حاقدة كارهة وهي غطاء لعمل سياسي فارسي صفوي حاسد بغيض، تقوم به هذه الطائفة والفئة المتطرفة المتعجرفة، تغطي من خلاله كل أعمالها لينخدع بها أنصاف المثقفين والذين في قلوبهم مرض ومن شوشت أفكارهم ومن لهم آراء -نسأل الله العافية والسلامة- بعيدة عن المعتقد الصحيح.
وما نرى اليوم من استغلال هذه الطائفية الفارسية الصفوية لشعائر الحج ومشاعره من خدمة لسياساتها وأطماعها، وأعمالها التخريبية، ومعتقداتها المنحرفة، التي لا يقصد منها إلا النيل من الإسلام، وتأليب أعدائه عليه، والقضاء على العقيدة الإسلامية الصحيحة، ومنهج السلف الصالح، وكل هذه الشعارات السياسية، والرايات الطائفية، والعصبية الفارسية، لا تمت للإسلام بصلة، ويستخدمون من أجل إظهارها كل الوسائل والأساليب المحرمة وغيرها، متناسين بذلك حرمة الزمان، وحرمة المكان، وحرمة الأنفس المعصومة، متغافلين ومتجاهلين العبادة التي جاؤوا من أجلها، وسعوا لإدراكها؛ لأن مقاصدهم وأهدافهم غير ما جاءوا من أجله ظاهرًا، ولا شك أن هذا وأمثاله مما ذكرنا وما لم نذكر داخل في المحرمات والموبقات والإلحاد في حرم الله تعالى، وهو مما نهى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم أشد النهي والتحريم.
وإن مما يحمد لولاة أمرنا وفقه الله، وعلى رأسهم خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وفقه الله وسدده، وقوفهم بقوة وحزم واقتدار ضد من يحاول زعزعة أمن الحج، أو النيل من شعائره، أو الإفساد في مشاعره، فلم ولا ولن يسمحوا لكل من يريد أن يحقق أطماعًا سياسية، أو مآرب طائفية، أو ينشر دعوة حزبية، أو عصبية فارسية، أو تحركات صفوية، عبر عبادة الركن الخامس من أركان الإسلام ألا وهو حج بيت الله الحرام.
فحكومة المملكة العربية السعودية هي حامية الحرمين الشريفين ولا تزال وستزال بإذن الله تعالى، وقد بذلت في حمايتهما وحفظهما جهودًا كبيرة، وأعمالاً مضنية، فقامت بهما خير قيام، وحرستهما من كل متعدٍ ظالم، وعدو غاشم، أو أن تنالهما يد الفجور والعبث، والشرك والخبث، والغدر والخيانة، والطمع والجشع.
وقد كان حال قاصدي الحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة للحج أو العمرة أو الزيارة قبل هذه الدولة المباركة المملكة العربية السعودية محزن مبكٍ؛ قتل وسلب ونهب، القوي يأكل الضعيف، والطائفة تفتك بالفرد، تخرج القافلة المكونة من العدد الكبير إلى الحج فقد تصل إلى البلد الحرام وقد لا تصل، وبالتالي فإن من يعود إلى أهله من أداء نسكه يكون في حكم المولود من جديد، عرفنا ذلك من الكتب، وسمعناه من آبائنا يحكونه عن آبائهم وأجدادهم الذين عايشوا ذلك.
وبفضل من الله ثم بإخلاص المؤسس واحتسابه واجتهاده لهذا الملك العظيم الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، صاحب الأيادي البيضاء، والمجد التليد، الذي بذل نفسه وولده وماله من أجل إعلاء كلمة التوحيد، وترسيخ المعتقد الصحيح، والمنهج السليم، وتطبيق شريعة الله، وتنفيذ حدوده وأحكامه، تبدَّل الخوف أمناً، والفقر غنى، والظلم عدلاً، وتبددت سحب الظلام، وانكشفت بإذن الله الغمة، وانفرجت الكربة، واطمأن الحاج، وتوسعت الدنيا على المحتاج، وانحسر أهل الشر والفساد، وفرَّ الأشرار وأرباب العناد، واندحر أصحاب الجور والهوى والشهوة والشبهة، وأنار التوحيد الخالص أرجاء الجزيرة بل وتعداه إلى أنحاء المعمورة، وفاح عبق المعتقد الصحيح الممتزج بسلامة المنهج في كل شبر من بلادنا الحبيبة، حتى صار مسكاً فواحاً، وعنبراً صداحاً، وروحاً وريحاناً.
ولهذا لما كانت المملكة العربية السعودية مهبط الوحي، وقِبلة المسلمين يتوجهون إليها في صلواتهم ونوافلهم، ومتطلع أفئدهم، ومقصدهم لداء مناسك الحج والعمرة أو الزيارة فقد صرف جلالة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن -رحمه الله- جل عنايته، وفائق اهتمامه، وكبير جهده، ومعظم وقته في خدمة الحرمين الشريفين من توسعة وتهيئة لكل ما هو ممكن في جميع المجالات من أجل أن يستطيع قاصدو الحرمين الشريفين من تأدية مناسكهم وشعائرهم وعباداتهم بيسر وسهولة واطمئنان وأمن وأمان، واستمرت هذه الجهود المباركة، والنظرة الخاصة، والمتابعة الدقيقة الصادقة من قبل أبنائه البررة الميامين حتى تقلد زمام الأمور، وولاية الأمر، وإدارة سدة البلاد من لقب نفسه بخادم الحرمين الشريفين حباً لهما، وإخلاصاً لدينه، ووفاءً لعقيدته، ورعاية لوطنه وأبنائه بصفة خاصة والمسلمين بصفة عامة، واستمراراً للعطاء، ومواصلة للجهود المباركة الخيرة التي بدأها ووضع لبنتها الأولى الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن -رحمه الله- حتى آتت ثمارها اليانعة ونتائجها السارة في هذا العهد الزاهر الميمون عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- الذي تلاقى فيه تراث الأجداد التليد العتيد بوفاء الأبناء والأحفاد المجيد، فاتضح من خلاله قوة الأسس، وسلامة البناء، وصدق التوجه المفعم بصحة المعتقد والتوحيد الخالص، إلى صدق الولاء وسلامة المنهج، ولذلك فإن كل من أدى مناسك الحج في عهد الدولة السعودية الثالثة رأى ما يثلج الصدر، وترتاح له النفس، وتقر به العين، ويلهج بسببه اللسان بالدعاء لمن قاموا عليه، وتابعوه وعملوا على بذل جهودهم وإمكاناتهم المادية والمعنوية من أجل إنجاحه وإظهاره بالصورة المطلوبة والمرغوبة.
وهذه الحكومة المباركة مستمرة بإذن الله تعالى في تحقيق هذه الأعمال الجليلة، والخدمات المتعددة لضيوف الرحمن، بدون كلل أو ملل، ومن أهم ذلك وأعظمه تحقيق الأمن ليؤدي حجاج بيت الله الحرام مناسكهم براحة واطمئنان، وسكينة وأمان، فأي شيء يخالف ذلك، أو يؤثر على أمن الحج، أو يشوش على حجاج بيت الله، أو يُستخدم الحج لغير ما شرعه الله من رفع الشعارات السياسية، أو تصدير الثورات الطائفية، أو زرع الفتنة الفارسية، أو نشر الملة الصفوية، فإن المملكة العربية السعودية واقفة وستقف بإذن الله دومًا في منع هذه المعتقدات الجاهلية، والأفعال التخريبية، والأعمال الإجرامية.
فإن الحج يكون بالطواف حول الكعبة، والسعي بين الصفا والمروة، والذهاب لعرفة ومزدلفة ومنى، ورمي الجمار، وذبح الهدي، وغيرها من أعمال الحج التي شرعها الله لعباده، وأمرهم به ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأما ما يخالف ذلك أو يزيد عليه مما ليس من أعمال الحج، وهو يشوش على فريضة الحج، فإن الواجب منعه، وعدم السماح لأحد مهما كان أن يفعله، وهذا واجب أوجبه الله على حكومة المملكة العربية السعودية من حفظ بيته وحمايته، وتأمين حجاج بيته، والعمل على تأديتهم لمناسكهم، وتطهير بيته من الشرك والبدع والمعاصي، وتمكين الطائفين والمصلين والمعتكفين فيه امتثالاً لقوله تعالى لنبيه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125]، ولقوله لنبيه إبراهيم عليه السلام: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26].
وما قامت به دولة إيران الصفوية الفارسية من اشتراطات فاسدة وخزعبلات كاسدة على حكومة المملكة العربية السعودية، أو عدم التزام بأنظمة سلامة الحج والحجاج لهو شاهد على عصبيتهم الطائفية، وإرادة تحقيق مآربهم الصفوية.
وقد أكد حجاج إيرانيون قدموا للحج أن ما شاهدوه على أرض الواقع مغاير تمامًا لما تروجه الدعاية الإيرانية المغرضة عن المملكة العربية السعودية وشعبها الذي يحمل الحب والكرم والأصالة، صغيرًا كان أو كبيرًا، بل ويتنافسون على خدمة ضيوف الرحمن، وتقديم ما ينال إعجابهم ورضاهم، مضيفًا أن إيران تحاول جاهدة طمس هذه الصورة المشرقة لبلاد الحرمين.
وإن إيران لما منعت حجاج دولتهم من أجل تحقيق أطماعها وشهوتها الفاسدة فهو دليل خذلان لهم، وبوار عليهم، فإن الحاج لا يُمنع من الوصول إلى بيت الله، ومن منعه فقد خالف النبي -صلى الله عليه وسلم-، أخرج أصحاب السنن الأربع من حديث جُبير بن مُطعم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا طَافَ بِهَذَا البَيْتِ، وَصَلَّى أَيَّةَ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ»، هذا في الطواف، فكيف بمنع مسلمي بلده من حج بيت الله الحرام؟!، بله كيف من منعهم من أجل تحقيق مطامعه وأهدافه الطائفية؟!، لا شك أن الجرم أعظم، والمعصية أشد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع فتاواه (26/250): وكذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم ولاة البيت أن لا يمنعوا أحدًا من ذلك في عموم الأوقات فروى جبير بن مطعم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدًا طاف بهذا البيت وصلى فيه أية ساعة شاء من ليل أو نهار».. وقد قال تعالى لخليله إمام الحنفاء الذي أمره ببناء البيت ودعا الناس إلى حجه: {طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125]، وفي الآية الأخرى {وَالْقَائِمِينَ} [الحج: 26]، فذكر ثلاثة أنواع: الطواف والعكوف والركوع مع السجود وقدم الأخص فالأخص، فإن الطواف لا يشرع إلا بالبيت العتيق باتفاق المسلمين.أهـ
وبحمد الله وفضله أن ولاة أمر هذه البلاد المباركة المملكة العربية السعودية منذ عهد المؤسس الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود وفي جميع مدة حكم أبنائه الميامين لم يمنعوا أحدًا من الوصول لهذا البيت المعظم، بل كانوا يسعون جاهدين بكل ما يستطيعون لخدمة ضيوف الرحمن، وتسهيل كل العقبات التي تحول دون وصولهم لبيت الله الحرام.