د. جاسر الحربش
لدينا في العالم الإسلامي، بما يشبه الشمول، مفارقة حضارية يجب أن يعيها الشباب لعلها تساعدهم على تحكيم عقولهم لإيقاف الطاحونة العقائدية المذهبية التي هرست قبلهم مئات الأجيال وما زالت تدور، بالمقارنة يسهل فهم المفارقة، مع بداية تحرر الشعوب المستعمرة في قارات العالم من هيمنة الاستعباد الغربي، استطاعت تلك الشعوب أو أكثرها باستعمال عقولها إدراك الأسباب التي أخضعتها سابقا للاستعمار.
النتائج العقلانية كانت الاتفاق على الاحتفاظ بالانتماء الروحي بالتراضي، مع انفتاح العقول على العلوم ومفاهيم القوة والحضارة وبناء المستقبل.
للأسف، الذي حدث في العالم الإسلامي كان العكس. منذ بدايات التحرر ظهرت الحركات الدينية الإحيائية، المودودية في الهند والإخوان في مصر والسلف في الجزيرة العربية والصفوية التجديدية في إيران. الاشتراط للتطور والبناء عند هذه الحركات كان العودة بالكامل إلى الماضي، طوعا أو كرها، والبراءة من كل مخلفات الاستعمار بجيدها وسيئها. بطريقة تعايشية بين الأنظمة والمؤسسات الدينية، تشتد وترتخي حسب الظروف، استطاعت طواحين المزايدات بالتشدد المذهبي والتعبدي أن تبقى في الدوران والطحن، إلى أن وصلت الأحوال في العالم الإسلامي إلى ما نراه ونعيشه.
لست مؤهلا لطرح وجهة نظر قي مؤتمر غرزني، أسبابه وأهدافه وقواعده الشرعية، ولا في الاختيار الجغرافي للمؤتمر المضحك المبكي. لكنني أعرف يقينا أن المؤتمر بمواصفاته ومخرجاته تلك كان محاولة لاستمرار التدوير لطاحونة قديمة جدا، تدير دواليبها السياسة بتوأميها الديني والدنيوي.
بعد حروب المنطقة الإسلامية المهلكة في العقود الأخيرة وانتشار الإرهاب المنحرف بدأ عندي بصيص أمل بأن دورة الطاحونة القديمة التي تهرس العظام وتنثر الدماء سوف تكون هذه المرة في دورتها الأخيرة.
لماذا تكون الأخيرة، لأن الناس في العالم الإسلامي انفتحوا وأصبحوا على وعي أكبر بألاعيب السياسة، وأصبح التلبيس بالدين والمذهب لتبرير الحروب مكشوفا، وانحراف ما سمي جهادا نحو الإرهاب الكافر بالله وملائكته ورسله وعصف بالمنطقة وكره العالم في الإسلام والمسلمين تحول إلى معاناة شاملة. أهم من ذلك أن المستفيدين الحقيقيين من دورة الطاحونة اللعينة هذه المرة انكشفوا بكافة التفاصيل سواء من خارج المنطقة وعالم الإسلام والمسلمين، أو من داخل المنطقة.
إذا لماذا لا تنبت عندي بذرة تفاؤل بأن الناس وعت وعرفت الطحانين والطاحونة والطحين، وأن تكون هذه الدورة هي الأخيرة لتبدأ مقاومة الشعوب للتلاعب بها، على الأقل بطريقة الرفض السلبي وعدم المشاركة. لكن مؤتمر غرزني ركلني بعنف وأخرجني من عالم الأمل إلى عالم الطاحونة اللعينة من جديد.
مؤتمر غرزني مؤهل لإدخال المسلمين في حرب الدراويش بالرقص وهمهمات الله حي الله حي عند طرف، ضد مفاهيم الفرض والتأديب بالعصا والخيزرانة عند طرف آخر.
هكذا تستمر طواحين المزايدات بالمذاهب وأنواع الطقوس التعبدية تدور وتدور وخراب الديار يتسع وينتشر. المهم بالنسبة لمن يعنيهم الأمر أن الطاحونة تستمر بالدوران.