حَج الناس إلى مكة المكرمة على الجمال والحمير والبغال، ثم تطورت وسائل النقل إلى البقاع المقدسة بحراً بدءًا بالمراكب الشراعية، ثم السفن البخارية، وصولاً إلى السيارات والطائرات.
وللحج الفضل الأول على ازدهار مكتبة أدب الرحلات (كما ذكر الأستاذ المؤرخ عبدالله بن حمد الحقيل) حيث دَوَّن العلماء والأدباء رحلاتهم ابتداءً برحلة الحج. فهذا اليعقوبي، الطبري، المسعودي، ابن جبير، وابن بطوطة، وغيرهم كثير، كانت رحلة الحج هي الباعث الأول في تأليف رحلاتهم القيمة التي لا تخلو من أيٍ منها مكتباتنا العامة والخاصة.
هناك من اهتم برحلة الحج بوصف الآثار المادية، الجغرافية وربطها بأحداث تاريخية. وهناك من اهتم بوصف المشاعر، ولغة الروح، وترجمة شوق اللقاء إلى أطهر البقاع بأسلوب أدبي. كما أن موسم الحج فرصة عظيمة لالتقاء العلماء بأقرانهم وطلابهم، والنقاش وتلاقح الأفكار فيما بينهم حول المسائل العلمية المهمة، وفرصة سانحة كذلك لأخذ الإجازات العلمية في العلوم الشرعية. ومن قرأ في نفح الطيب للمَقَّري، أو الفهرسة للأشبيلي يجد سير علماء كثر كانت رحلاتهم همزات وصل بين المغرب والمشرق في نقل العلوم والآداب والثقافة عموماً.
مؤلف (التحليق إلى البيت العتيق) هو كما قال أبو تمام:
هُوَ البَحرُ مِن أَيِّ النَواحي أَتَيتَهُ
فَلُجَّتُهُ المَعروفُ وَالجودُ ساحِلُه
هو الأستاذ الدكتور عبدالهادي التازي، مؤرخ، فقيه، دبلوماسي، كاتب، ومثقف: من مواليد فاس 8-10-1339هـ الموافق 15-6-1921م، أسهم منذ صغره في الحركة الوطنية فتعرض للنفي والاعتقال عدة مرات. تلقى تعليمه الابتدائي والثانوي بفاس، ونال شهادة العالِمية من جامعة القَرويين (فاس) بدرجة متفوق جدا 1366هـ - 1947م. وقد عين أستاذاً بهذه الجامعة بتاريخ 21-6-1367هـ الموافق 1-5-1948م، ونال شهادة في اللغة الفرنسية، من معهد الدراسات العليا المغربية الرباط 1372هـ الموافق 1953م. انتقل من فاس للرباط بعد استقلال المغرب وذلك للإشراف على القسم الثقافي بوزارة التربية الوطنية 1377هـ الموافق 1957م. طمح إلى الانتساب لجامعة محمد الخامس (العصرية) فنال بها دبلوم الدراسات العليا عام 1382هـ الموافق 1963م. (وهي أول شهادة دبلوم تمنحها الجامعة المذكورة في حياتها). حصل على شهادة في الإنجليزية من معهد اللغات في بغداد عام 1386هـ الموافق1966م. نال درجة الدكتوراة من جامعة الإسكندرية عام 1391هـ الموافق 1971م. دَرَّسَ في العديد من المعاهد والمدارس العليا والكليات داخل المغرب وخارجه. كما نشر منذ صغره عدة مقالات فاقت 700 عنوان، وترجم إلى اللغة العربية الكثير من الدراسات والمقالات من اللغات الفرنسية والإنجليزية، وله أكثر من 60 كتاباً منشورًا، منها ما هو مرجع في بابه. كما قد عين مديراً للمعهد الجامعي للبحث العلمي في الفترة 1394ـ 1414هـ الموافق 1974ـ 1994م. وكان التازي (رحمه الله) عضواً في العديد من مجامع اللغة العربية والجمعيات والمؤسسات والمنتديات الاقليمية والدولية، وقد شارك في العديد من المؤتمرات. وقد عين سفيراً لمملكة المغرب في العراق، ليبيا، الإمارات، ثم إيران. نال عدة أوسمة محلية وعربية. توفي بمدينة الرباط يوم الخميس 12 جمادى الآخرة 1436هـ الموافق 2 أبريل 2015م.
كانت هذه الرحلة التي كتبها الدكتور التازي التي وَسَمَها (التحليق إلى البيت العتيق)، وقصد (رحمه الله) بالتحليق أي بالطائرة، في وقت كان السفر بالطائرة لا يكون إلا للملوك والرؤساء وعلية القوم ومن هم في صحبتهم. وكانت صفة هذه الرحلة رسمية، حيث كان التازي (رحمه الله) ضمن الوفد الرسمي الذي مَثَّلَ جلالة الملك محمد الخامس ملك المغرب في الحج، وكانت هذه عادة الحج المغربي كل سنة منذ القدم، وهي أول حجة تخرج من المغرب بعد الاستقلال من الاحتلال الفرنسي، وقد كانت في عام 1378هـ 1959م.
المؤلف (رحمه الله) جعلنا مرافقين له مسافرين معه في هذه الرحلة منذ أن رن جرس هاتف مكتبه لإخباره باختياره ضمن وفد مملكة المغرب في رحلة الحج، لغاية نزوله من سلم الطائرة وصولاً إلى مطار سلا بالرباط. فقد وصف في هذه الرحلة كل ما التصق به من مشاعر وتجارب حية متنوعة ومشاهدات للجوانب الاجتماعية والدينية والثقافية،وخطابات رسمية نقلها كاملة بالنص، ولقاءاته مع الملك سعود والأمراء والأدباء وعامة الناس. في هذه الرحلة يجد القارئ وصفًا للمظاهر العمرانية، والأربطة (خصوصاً الرباط المغربي) وما كان دورها في تلك الفترة من إرشاد وإيواء للحجاج، الذين انعدم في هذه الأيام بوجود حملات الحج المنظمة، كما وصف بعض الآثار النبوية الشريفة والحجرة المقدسة، والأماكن المقدسة، وصف شكل ولبس ودور الأغوات في المدينة المنورة، كما وصف ظاهرة التسول، نقل بالأرقام أعداد الحجاج والمصابين في الحج، وظاهرة تخلف الحجاج عن العودة إلى بلادهم والطمع في المجاورة، ووصف الشوارع، والأزقة، ووصف درجات الحرارة العالية، التي يندر معها وجود غرف مكيفة في غير القصور الملكية،كما قارن الفرق بين العملات والمواقيت بين المغرب والمشرق، ونقل مشاهداته للكتابات على الأعمدة في الحرم وفي القصور الملكية، وغيرها ذلك من وصف دقيق في باقي رحلته إلى الحج. وفي هذه الرحلة تساءل المؤلف حول مشروع يقوم بالإفادة من لحوم الأضاحي، وذلك ما تم تنفيذه في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز آل سعود، من خلال مشروع المملكة العربية السعودية للإفادة من الهدي والأضاحي، بإدارة البنك الإسلامي للتنمية عام 1403هـ 1983م.
في هذا الكتاب كثيرة هي المشاهد الحزينة والمبكية من وفاة أصدقاء وأقارب، وصولاً إلى تأثره وأصحابه بزيارة قبر الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ولكن أعظم مشهد كان مؤثراً جداً ومبكياً هو وفاة عمة زوجة المؤلف وهي السيدة لالة حبيبة (رحمها الله)، والتي وصف كيف عثر وتعرف عليها بين جثث الموتى بعد أن أنهكه الإعياء والتعب، وذكر وصيتها، وكيف استقبل العزاء فيها.
من عادات المؤلف (رحمه الله) الدقة الشديدة منذ حداثة سنه، فقد كان يقيد كل ما يمر عليه، وكل ما استطاع تقييده، ولعل غلبة المؤرخ في شخصيته سيطرت عليه وجعلته مهووساً بالتوثيق. ومما يذهل المرء أن الدكتور التازي (رحمه الله) وحتى آخر رحلة له كان يكتب رقم الرحلة ووجهتها بالإضافة إلى تاريخها ووقتها، ومن قابل في بلد الرحلة ومن تعرف عليه. وصل في ذلك إلى 1336 رحلة مقيدة بكافة تفاصيلها. أعتقد لو نشرها بدون إضافات ولا فهارس لبلغت أكثر من مجلد. لذا كانت رحلة (التحليق إلى البيت العتيق) توثيقاً له، ولا أعتقد أنه كان ينوي نشرها، وإنما أعتقد أنه قد أعدها ليتسلى بها مع نفسه وأهله وأصحابه إذا عاد من رحلة الحج. وقد تمت هذه الرحلة حبيسة لدى المؤلف حتى نشرها بواسطة دارة الملك عبدالعزيز في عام 1422هـ الموافق 2002م.
أما الطرائف والمُلَح في هذا الكتاب فهي كثيرة، فالمؤلف (رحمه الله) سلس العبارة، حاضر الطرفة، لذا تجد بين صفحات كتابه العديد منها. نذكر في هذه المقالة ما ذكره عن ابنه أوس، الذي كان يجد صعوبة في نطق حرفي الجيم والحاء، فكان يبدلهما بحرف الدال، ومن عادة المغاربة إذا أرادوا طلباً أن يقولوا: «الله يعطيك حجة، هبني كذا وكذا»، أي: دعاء إلىالله أن يكرمك بالحج أن تعطيني حاجتي، فكان أوس ابنه يكرر عليه دائماً إذا أراد طلباً: الله يعطيك «هده» أعطني كذا وكذا، فكان المؤلف (رحمه الله) مع كل إعياء وتعب في الحج يتذكر مقولة ابنه اوس «الهده»، فتخفف عنه ما أصابه.
كذلك من الطرائف تلقيبه للسفير محمد غازي بالحُجَّاج، على غرار تلقيب زكي مبارك بالدكاترة؛ وذلك لنيله أكثر من شهادة دكتوراة، والسفير محمد غازي قد حج أكثر من مرتين.
أوصي القارئ الكريم أن يحاول قراءة هذا الكتاب في جلسة واحدة، فهو صغير الحجم، ومعلوماته متصلة، ولا يأخذ مزيد وقت، وهو فرصة لمن أراد أن يتعرف على نموذج من رحلات المغرب الأقصى إلى البقاع المقدسة بلغة أدبية راقية.
وإن كان من توصية أخرى لكتاب رائع قام به الدكتور عبدالهادي التازي (رحمه الله)، فهو ترجمته لمقال رائع كتبته الكاتبة الأمريكية هيلين آدمز كيلر
Keller Adams Hellen،وهو من مطبوعات مكتبة الملك عبدالعزيز العامة 1435هـ، أعادت طبعه بعد 47 سنة، منذ أن نشر عام 1970م، وعنوان الكتيب «لو أبصرت ثلاثة أيام» If I Had Three Days to See، تحدثت فيها عن نعمة البصر، وأهمية استنطاق هذه الحاسة, والاستمتاع بكل تجاربها، وليس جعل نعمة البصر أداة تسجيل فقط. كتيب رائع ونافع أوصي به كثيراً.
سعد بن إبراهيم العريفي - باحث دكتوراه في التاريخ الحديث