في عام 1978 أصدر معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا دراسة عن الآثار السلبية للقرارات الاستراتيجية الخاطئة لشركات الطيران المبنية على توقعات غير دقيقة في حجم الطلب في سوق النقل الجوي الداخلي في الولايات المتحدة، وتناولت الدراسة ضعف منهجيات التنبؤ واستقراء السوق لدى شركات الطيران وتأثيرها الذي يقود إلى قرارات خاطئة تتسبب إما بعدم تلبية الطلب الحقيقي وأزمة حجوزات، أو خسائر مالية للشركات بسبب عدم جدوى التشغيل أدت لإغلاق خطوط أو إفلاس شركات، قدمت الدراسة أيضاً مجموعة من الحلول والنماذج لتعزيز القدرات الاستشرافية للصناعة وبالتالي المساعدة على اتخاذ القرارات الإستراتيجية الصحيحة، وكانت نقطة تحول في صناعة الطيران بالولايات المتحدة.
اليوم في سوق النقل الجوي الداخلي في المملكة العربية السعودية نعيش أجواء مشابه لنهاية السبعينيات في سوق النقل الجوي في الولايات المتحدة -تحرير السوق ورفع التشريعات والتدخل الحكومي-، فالمنهجية التي تبنتها الهيئة العامة للطيران المدني لتحرير سوق النقل الجوي الداخلي ومراجعة التشريعات التي تحكم السوق تنبئ بنمو كبير في سوق السفر الجوي الداخلي والخارجي، لكن ما هو حجم هذا النمو؟ ما معدل نموه؟ وكيف سنستثمره؟
قدر قبل عدة سنوات حجم العجز في المقاعد المتاحة للسفر مقابل حجم الطلب على السفر بالطائرة في سوق النقل الجوي الداخلي في السعودي بـ1.5 مليون مقعد، تردد هذا الرقم عبر عدة وسائل إعلامية، ونقلاً عن جلسات مناقشة التقارير السنوية لهيئة الطيران المدني في مجلس الشورى، وعن مختصين في السفر والسياحة دون ذكر حيثيات التوصل إلى هذا الرقم أو الإشارة إلى دراسة بعينها توصلت نتائجها إلى حجم العجز، ولم تعلن نسبة كل وجهة داخلية من هذا العجز، أو هل العجز دائم أو موسمي، تفاصيل كثيرة لمساعدة شركات الطيران الحالية أو الراغبة في دراسة ودخول السوق.
بعمل مقارنة بسيطة بين سوق النقل الجوي الداخلي في المملكة العربية السعودية الذي يعد من الأسواق الناشئة في صناعة الطيران وسوق النقل الجوي الداخلي في الولايات المتحدة، للتوصل إلى تصور مبدئي أو فكرة عامة عن اتجاه الطلب وفرص النمو المستقبلية للسوق نظراً لتشابه سمات السوقين، من حيث حجم المساحة الجغرافية الكبيرة وعدم توافر وسائل نقل بديلة بنفس الكفاءة وتوفر محفزات السفر (الأسباب الدينية والاقتصادية والصحية والتعليمية والاجتماعية) والقوة الشرائية. سوق النقل الجوي الداخلي في الولايات المتحدة هو أكبر أسواق النقل الجوي الداخلي بالعالم وأكثرها نضجاً، بينما سوق النقل الجوي الداخلي السعودي من الأسواق الناشئة ويمكن من خلال المقارنة إظهار فرص النمو بين حجم السوق الحالي والحجم المستقبلي للسوق في حال اتباع المنهجيات الصحيح وتوافر المناخ العام لنمو السوق.
خلال عام 2015 بلغ عدد المسافرين في سوق النقل الجوي الداخلي في الولايات المتحدة بحسب مكتب إحصاءات النقل الأمريكي696.2 مليون مسافر، بينما يبلغ عدد سكان الولايات المتحدة بحسب بيانات الأمم المتحدة 321.8 مليون نسمة، ما يعني أن عدد المسافرين في سوق النقل الجوي الداخلي في الولايات المتحدة يعادل 216.4 % من عدد السكان.
وفي نفس العام بلغ عدد المسافرين في سوق النقل الجوي الداخلي في المملكة العربية السعودية بحسب الكتاب الإحصائي للهيئة العامة للطيران المدني 39.4 مليون مسافر، بينما يبلغ عدد سكان المملكة العربية السعودية بحسب بيانات الهيئة العامة للإحصاء 31 مليون نسمة، ما يعني أن عدد المسافرين في سوق النقل الجوي الداخلي في السعودية يمثل 127 % من العدد الإجمالي للسكان، هذي النسبة كانت 102 % فقط من عدد السكان بالسعودية في 2013 (30.6 مليون مسافر على الرحلات الداخلية، 30 مليون عدد السكان).
بافتراض استمرار نسبة النمو السكاني في السعودية وبدراسة نمو عدد المسافرين العشري خلال السنوات الماضية، ومقارنة بأسواق الطيران الناضجة التي تشابه ظروف السوق السعودي، فإننا أمام فرص نمو هائلة في عدد المسافرين قد تتجاوز 89 % وصولاً إلى 67 مليون مسافر للوصول إلى مستوى النضج كما في سوق الطيران الأمريكي على سبيل المثال متى ما توفر المناخ المناسب لذلك، المهم هو اتباع منهجيات استشرافية علمية تساعد شركات الطيران الوطنية على خدمة السافرين الداخليين بين المطارات الـ27، فالطلب على النقل الجوي غير متساو بين المطارات الداخلية، وغير ثابت طوال العام، فينخفض بشكل كبير في غير المواسم، ويرتفع بحيث لا يمكن استيعابة بالمواسم.
شهد الغرب بعد الحرب العالمية الثانية حركة واسعة استهدفت الاهتمام بالدراسات المستقبلية، وتعميق مفهوم المستقبلية في العقول، حتى غدت دراسات المستقبل صناعة أكاديمية، ونشاطاً علمياً قائماً بذاته، ومنهجاً علمياً للإدارة والتخطيط، وبذلك تفوقوا، ولنفس السبب هم أسواق ناضجة ونحن ما زلنا أسواقا ناشئة في صناعة الطيران رغم امتلاكنا جميع مقومات النضج أو ربما معظمها!
غياب البيانات الموثقة ومراكز الدراسات الوطنية المتخصصة، تجعل أي قطاع طيران كربان طائرة يحلق بلا بوصلة، والتطور والنمو كمطار ينخفض فيه مستوى الرؤية الأفقية ويفتقد إلى أجهزة الإرشاد الملاحي المساعدة للوصول إليه.
- سليمان المحيميدي