هاني سالم مسهور
منذ سنوات طويلة نراقب أذرع إيران في المنطقة العربية، ولطالما أخذت مراقبة مليشيات «حزب الله» في لبنان اهتمامًا بالغًا. وأهمية ذلك لم تأتِ إلا بعد أن استطاعت تلك المليشيا أن تشكّل نظامًا موازيًا أو نظامًا يعمل خلف الجدران للدولة؛ فهو يجيد الاحتفاظ بعلم الدولة ومظاهرها العامة، وفي مقابل ذلك يصنع نفوذه في جغرافيته وبين طائفته. نتذكر تمامًا كيف كان جنوب لبنان خلال السنوات ما بعد «اتفاق الطائف»؛ إذ لعب «حزب الله» أدوارًا بدأت بادعاء حرب إسرائيل، ثم انتقلت لبناء المستشفيات والمدارس وشق الطرق؛ ليخرج للعالم مليشيا عسكرية طائفية، لها ذرائعها الوجودية.
ما حصل في سوريا خلال خمس سنوات يختلف عن ذلك؛ فلقد تحوّل النظام السوري إلى مليشيات مختلفة تسيطر عليها المصلحة من وجود رأس النظام وأذرعته المختلفة، سواء كانت اقتصادية أو سياسية أو عسكرية. وبالفعل، نرى أن تركيبة قوات النظام اليوم بعد خمس سنوات من الحرب لا تختلف كثيرًا عن تركيبة (مليشيات المعارضة)؛ فبالرغم من أن قوات النظام تحظى بكمية أكبر من الموارد من الهيكل اللوجيستي للجيش السوري الذي ما زال قائمًا إلا أنها تتألف من عدد هائل من المليشيات المحلية المتحالفة مع مختلف الفصائل والممولين المحليين والأجانب وأمراء الحرب المحليين. فالمليشيات التابعة للنظام ليس منها ما هو قادر على القيام بأي عمل هجومي سوى قلة قليلة. وهذا التشرذم هو نتيجة مباشرة للتفاعل بين الضغوط الاقتصادية والحكومية على الصعيدين القومي والمحلي أكثر مما هو نتيجة للقيود الطائفية والديموغرافية. ومع ضمور الدولة المركزية السورية الاستبدادية نالت الأطراف المكونة لها (سواء كانت الطائفية أو المنتفعة أو ببساطة المتوحشة) درجة مذهلة من الاستقلال السياسي والاقتصادي عن دمشق. وبعكس ما زعم البعض، لم يعقد الأسد صفقة عظمى مع شريحة واسعة من سكان المدن السُّنة، بل رفع أكثر العناصر وحشية في البلد إلى مقاليد السلطة، وضاعف رهانه على نزعات قواعدها الطائفية والقبلية والعنفية.
هذا ما يجعل كل فصائل المليشيات المؤيدة للنظام السوري حريصة على أن يبقى رأس النظام وحتى هيكله العام، سواء كان سياسيًّا أو اقتصاديًّا، قائمًا؛ فهي تستفيد من وجوده. فبالإضافة إلى ما تبقى من الزراعة أصبح تهريب النفط والأسلحة والناس النشاط الاقتصادي المهيمن على الكثير من مناطق سوريا، تجني منه المليشيات الموالية الكثير من الأموال، والقوات المسلحة التي يفترض أنها تقاتل من أجل الأسد تعلمت بسرعة أن تستغل الضائقات في الاقتصاد المحلي؛ لتحرر نفسها من وصاية دمشق، وبالأخص عندما يتعلق الأمر بإحدى أسهل السلع للمقايضة، وهو النفط.
بدلاً من محاولة احتكار الموارد تعتمد المجموعات المسلحة (الموالية للنظام) إلى الانتفاع من السكان المحاصرين مباشرة عبر فرض الضرائب. هذه الضريبة توفر دخلاً شهريًّا، يبلغ ملايين الدولارات، وهو مبلغ كافٍ لتغطية نفقات الطعام والمستلزمات لآلاف المقاتلين الذين يحاصرونهم وعائلاتهم. وبهذا تضاعفت تكلفة المعيشة في مناطق الصراع تلك، مع ذهاب الفارق إلى جيوب جنود النظام الموجودين فيها. إذن، مع عجز دمشق عن تمويل وإطعام عوائل رجال المليشيات الموالين تأتي محاصرة المدنيين وفرض الضرائب عليهم ضرورة اقتصادية؛ ليُبقي النظام جنوده على الجبهات.
أخذ أتباع نظام الأسد يقتاتون من الأرض ومن السكان المدنيين منذ زمن، ولا يمكن اليوم لمعظم التشكيلات المقاتلة الموالية للنظام الاعتماد عليه في تحصيل دخلها أو عتادها أو مجنديها. ورغم أهميتها الاستراتيجية للأسد غير أن هذه التشكيلات تنامت، وأصبحت تشكل قوة قادرة على تحديد ملامح الوجود السياسي الذي يهتم به النظام السوري.
كثير من المراقبين لم ينظر إلى الانتخابات البرلمانية التي أجراها النظام السوري في ظل هذه الحرب؛ فعلى اعتبار أنها جاءت في ظروف حرب طاحنة لم تحظَ بما يجب من الاهتمام؛ فلقد حدث في هذه الانتخابات تحوُّل هيكلي للنظام من دولة مركزية إلى خليط مائع من أمراء الحروب؛ إذ فقد عدد من البعثيين القدامى والوجهاء أعمدة النظام التقليديين مقاعدهم لصالح مهربين جدد وقادة مليشيات ورؤساء قبائل.
يمكننا اليوم أن نصف ما يحصل في سوريا بأنه (ضمور) للدولة السورية التي كانت معروفة سابقًا على أنها دولة تنحاز للعلمانية، وتعتمد في اقتصادها على مواردها المحلية. هذا الضمور يقابله تحالف مع زعماء مليشيات وإقطاعيين يمتلكون من الأرض أكثر مما يمتلكه النظام الذي يتحالفون معه من جانب أنه يعطيهم الشرعية للوجود على الأرض السورية المحروقة.