«الجزيرة» - أحمد المغلوث:
منذ كنت طفلاً صغيرًا وأنا أشاهد بعض زملاء دراستي في المرحلة الابتدائية حتى المتوسطة وهم يلعبون الورق، ومع هذا لم تستهوِني اللعبة؛ وذلك لسبب بسيط: أن لدي هواياتي (القراءة والرسم).. ومع هذا رسمت لعبة الورق في العديد من أعمالي. وفي إحدى زياراتي لتقديم تهنئة العيد لشخصية أحبها وأعرفها، وهي من الشخصيات المعروفة في مدينة الهفوف، وجدت في مجلسه العامر ثلاثة من أصدقائه الخلص؛ فتذكرت الوجوه هي هي، نفسها التي كنت أشاهدها في مجلسه بين فترة وأخرى، وإذا بهم إخوته في الله وزملاء عمل سابقون. والأربعة كانوا - وما زالوا - يشكّلون فريق لعبة «البيلوت»، وجميعهم جمعتهم المحبة والأُخوَّة وعشق اللعبة الورقية الشهيرة، وما زالوا يمارسونها منذ خمسة عقود وأكثر، بل إنهم شكَّلوا معًا «دارية» أسبوعية كل ليلة خميس، لا يمكن أن تتوقف إلا في حالة وجود ظرف طارئ.. ومثل هؤلاء كثيرون في بلادنا وغير بلادنا. وقد مارس تلك اللعبة الأباطرة والملوك وحتى رجال العلم والأدب، بل إن بعض القرارات وتشكيل الوزارات تتم عادة في بعض الدول على هامش هذه اللعبة. ولا شك أن هذه اللعبة محمودة؛ كونها تُسعد المشاركين فيها، وتشغلهم - إلى حد ما - عن همومهم ومتاعبهم وضغوط الحياة اليومية. وكم عُقدت من صفقات تجارية بالملايين خلال اللعب أو بعده. وأعرف أن بعض الأصدقاء الميسورين يحملون معهم أوراق اللعب أينما ذهبوا، بل تُروى الكثير من الحكايات عن عشاق هذه اللعبة. وأذكر أن أيام الانفتاح السياحي الكبير على تايلاند والفلبين كانت تقام لقاءات لعب ودية بين عشاقها من السياح العرب والخليجيين، أو بين أبناء الدولة الواحدة. وأذكر أنه عندما زرت مونت كارلو للمشاركة في معرض النخبة العالمي، وبعد أيام، ومن باب حب الاستطلاع والشغف الصحفي، دخلت «الكازينو» الشهير الذي يدر على إمارة موناكو مليارات الدولارات سنويًّا.. وبالطبع لم يكن اللعب من أجل التسلية وتوسيع الصدر، إنما من أجل «لعبة البوكر» القمارية المعروفة. وبالطبع، لقد سلمت متعلقاتي الشخصية وكاميرا التصوير لمكتب الاستقبال قبل الدخول للقاعات الكثيرة التي تفوح منها روائح الأموال الممتزجة بالعطور الثمينة التي ملأ شذاها الكازينو. هناك شاهدت وجوهًا شهيرة حقيقية وهي تلعب وتكسب وتخسر.. قضيت وقتًا مشبعًا بالدهشة والذهول مما رأيته. ومثل هذه المشاهد وثقتها أفلام هوليود، ولكن من خلال ممثلين معروفين.. بعيدًا عن الجوه الحقيقية من زعماء وقادة وأثرياء.. الذين لا يمكن تصويرهم، أو حتى الإشارة إليهم. كان البعض من المشاهير يقف خلفهم وبجانبهم حراسهم؟! والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، ويبحث عن إجابة، هو: متى نشأ لعب الورق؟ والإجابة عن ذلك تشير إلى أن ورق اللعب ظهر في آسيا، وبالتحديد في الصين، ويرجع ذلك إلى عام 1120م، وكان ظهوره في عهد الإمبراطور (سيون هو) الصيني، وبتوجيهاته؛ لأنه أراد إيجاد لعبة تلهو بها محظياته وسراريه الكثيرات. وفي أسطورة هندية قديمة إن ورق اللعب كان معروفًا في الهند قبل ذلك الزمن بكثير، وإن كهنة البراهمة هم الذين ابتكروه.
ومما يجدر بالذكر، في بعض متاحف العالم مجموعات قديمة من ورق اللعب الذي كان شائعًا في الهند، وكان مستدير الشكل لا مربعًا أو مستطيلاً كالورق الشائع في هذا العصر. وهناك من يعزو نشأة الورق للمصريين القدامى، وآخرون يعتبرون أوراق اللعب ابتكارًا عربيًّا، لكن عدم وجود أسماء عربية على الورق ينفي هذه المعلومة. وكما اختلف المؤرخون في أصل ورق اللعب اختلفوا أيضًا في زمن دخول هذا الورق أوروبا. وأشار كاتبٌ إيطالي من أهالي فيتربو، يدعى كوفيلوتزو (عاش في القرن 15)، إلى أن الإيطاليين أخذوا ورق اللعب عن العرب، وأن لديه سجلات قديمة ورثها عن جده، في إحداها العبارة الآتية: (وفي عام 1379م أدخلت لعبة الورق إلى مدينة فيتربو، وهي لعبة جاءت في الأصل من بلاد العرب، وتُعرف عندهم بلعبة النايب). وإذا صدق هذا القول فلا شك أن الصليبيين هم الذين جلبوا هذه اللعبة إلى أوروبا عند عودتهم من بلاد المقدس؛ إذ المعروف عنهم أنهم كانوا أكبر مقامري ذلك الزمن.
أما في العالم الجديد فإن أول إشارة إلى ورق اللعب هي ما ذكره (هيريا) صديق كورتيز في إحدى رسائله من أن شعب الأزتيك كان شديد الشغف بورق اللعب الذي أدخله الجنود الإسبانيين إلى أمريكا.
في أوائل القرن الخامس عشر أصبحت صناعة ورق اللعب مهنة رابحة في ألمانيا، وكان الألمان يتاجرون بهذا الورق تجارة واسعة، ويصدرونه إلى بلاد كثيرة. وبعد ذلك بقليل شرع الإيطاليون أيضًا في صناعة الورق والمتاجرة به على نطاق واسع. أما الإنجليز فلم يتقنوا هذه الصناعة إلا في النصف الأخير من ذلك القرن، وأول مصنع لورق اللعب لديهم كان في عام 1463م، وذلك إثر القانون الذي أصدره الملك إدوارد الرابع، وحرّم بموجبه استيراد ورق اللعب من الخارج، وكان ذلك بتحريض من أصحاب المتاجر من الإنجليز، وكان معظم الورق يأتي قبل ذلك من فرنسا وهولندا؛ إذ كانت تجارته رائجة رواجًا عظيمًا. وفي عهد الملكة اليصابات احتكرت الحكومة الإنجليزية تجارة الورق، وصارت تستورد الكثير منه من الخارج كفرنسا وألمانيا وإيطاليا وهولندا؛ فعاد التجار وأصحاب معامل الورق يشكون، فلما جاء جيمس الأول عاد فحظر استيراد الورق من الخارج، ووضع على المصانع الإنجليزية ضريبة، لا تزال قائمة حتى الآن، وهي مصدر إيراد لا يستهان به.
وفي العقود الأخيرة باتت صناعة ورق اللعب تكاد تكون منتشرة في مختلف دول العالم، وعلى الأخص شرق آسيا (الصين - اليابان - كوريا - الهند - إندونيسيا).. الخ.