د. حسن بن فهد الهويمل
مثلنا، ومثل اليمن التَّعيس، كذلك المشؤوم الذي عناه الشاعر بقوله:-
[أُرِيْدُ حَيَاتَهُ، وَيُرِيدُ مَوْتِي
شَتَّانَ بَيْنَ مُرَادِهِ، وَمُرَادي]
لقد أفضنا عليه من وافر المال، وصادق النصح، وحُسْن الجوار. وسَرَّبَ إلينا عبر الحدود كل الممنوعات، وتسلل إلينا مختلف المجهولين. وبلغ ذروة الإيذاء بالمقذوفات العسكرية، التي تقتل الأبرياء، وتخيف الآمنين.
خيرنا إليه نازل، وشره إلينا صاعد. نحاول لمَّ شمله، وجمع كلمته، والتوفيق بين أطيافه. ويخادعنا ببيع مواقفه بأغلى الأثمان، حتى إذا نقدناه الثمن، اشترى به السلاح، لقتل عشيرته الأقربين، وتشتيت شمله المشتت! فيما يظل الجياعُ يَتضَوَّرون، والمرضى يئنون، والأصحاء يلوذون في الكهوف والمغارات.
داؤه المستعصي يكمن في مكوناته السكانية المتنافرة: قبائل متعددة، وأحزاب متنوعة، وطوائف متناحرة، ومُرتَزقة يبيعون قوميتهم، ويحرِّفون عقيدتهم، وينقلبون على شرعيتهم، ويُصَعِّدون الخلاف مع جارتهم. وأعداءُ الطرفين: [اليمن] و[المملكة] يستدرجون الجهلة، لينفِّذوا من خلالهم أضغانهم. لقد أعطَت [المملكة] بدون مَنٍّ، وجاورت بدون أذى. وكل ماتريده أن تأمن حدودها من متسلل يحمل الممنوعات، أو مفسد يخيف الآمنين، أو قناص يقتل الأبرياء.
كل هذه المقترفات يمارسها أطياف عجاف، لايقدرون على شيء إلا بحبل من الله، أو بحبل من الناس.
شعب خسر إمكانيات أفراده، الذين يتوفرون على الجلد، والإصرار، والصبر، والمصابرة ويعشقون الهجرة في طلب الرزق.
علماؤه أفذاذ، ومُبْدعوه متألقون، والناصحون من عامته يهاجرون في أرض الله، بجرأة الواثق، وأنفة الشريف، وثقة العارف.
- فأين هؤلاء من المفسدين في أرض [اليمن]؟.
يخرج الجادُّون منهم من ديارهم خِفاف العياب، فتستقبلهم أسواق [المملكة]، تُعَلِّم جاهلهم، وتُدَرِّب مُبْتدئهم، وتُشَغِّل عاطلهم، وتمنحهم الثقة. ثم يعودون إلى بلادهم بُجْر الحقائب. لتأتي أمواج أخرى تأخذ الدور نفسه. وتكسب الخبرة عينها، وتجمع المال ذاته.
فالمملكة، وأسواقها متاحة لهم، دون غيرهم. فهي بما تمنحه لهم من التسهيلات، وماتدفعه لدولتهم من المساعدات، وما تبذله على أرضهم من الإصلاحات، تمثل لهم عمقًا غذائيًا، واقتصاديًا، وأمنيًا غير مشروط.
بلادنا المضياف لايريد من كافة أطياف اليمن تغيير رؤية، ولا إلغاء عقيدة، ولا بيع كرامة. وكيف نفعل مثل ذلك، ونحن نصون الكرامة، ونضمن الحرية، ونُقَدِّم الخدمةَ لكل وافد يطلب الرزق، أو العبادة.
ومع كل هذه التسهيلات والمميزات المتاحة لهم وحدهم، نفاجأ بما لايُتَوقَّع من مثلهم لمثلنا. كل الذي نريده التخطي باليمن من حافة المجاعة إلى أطراف الكفاف. ومن ضيق الخوف إلى رحابة الأمن. ومن تصادم المكونات السكانية إلى تصالحها. ومن عمالتها إلى عملها.
[اليمن] على كل القراءات خنجر في خاصرتنا. ونحن نحاول بكل الوسائل استلال هذا الخنجر من يد العابثين.
وتقلبات طقسه السياسي، يمتد إلينا شيء من دخنه، وكل عدو متربص بنا، يجد من خلال تفككه، وتناحر أطيافه أكثر من منفذ.
هَمَّنا دائمًا يكمن في استقرار اليمن، وبعده عن التقلبات السياسية، وما لم نستعمل راجمات الدرهم، والدينار، استعملنا مضطرين راجمات القذائف. وخيارنا القوة الناعمة ما أمكن ذلك.
مستشار وزير الدفاع، الناطق الرسمي اللواء [أحمد عسيري] الشجاع المقدام، حمَّلنا مسؤولية الأمن، والاستقرار في [اليمن]. وهذا من باب [لزوم ما لا يلزم].
ومع إعجابي، وتقديري لبراعته التعبيرية، وحسن إدارته لمهماته، إلا أنني أرى أنه أبعد النجعة، وحمَّلنا ما لانحتمل.
أمن [اليمن] مسؤولية أبنائهِ، على مختلف انتماءاتهم: القبلية، والطائفية، والإقليمية. وأولويات مهماتنا أن نحمي أنفسنا أولًا من مشاكله. وأن نحولَ دون أن يكون منفذًا للأعداء.
[اليمن] قَلِقٌ لايهدأ، وبعض مكوناته السكانية موبوءة بالجهل، والفقر، والطائفية، والقابلية للتخلف.
ومن المستحيل أن يركن أيُّ مكون سكاني فيه إلى الوئام، أو يجنح إلى السلام. تلك بنيته الذهنية، والسكانية، وهي بنية لاتقوض بالسلاح، ونسيج لاينقض على موائد المفاوضات.
قدره المشؤوم أن أنساقه الثقافية تقوم على الشقاق، وعدم الوفاق، ومن ثم لابد من تحرُّف طويل الأجل، يعيد تشكيل بنيته الذهنية، وأنساقه الثقافية.
وتلك مهمة العلماء، والمعلمين، والمفكرين، والأدباء، والإعلاميين. ولن يكون لأي طائفة تأثيرها المؤمَّل، مالم يعرف اليمنيون ماهم عليه، وما يجيب أن يكونوا عليه.
مانوده زحزحة [اليمن] من بؤر التوتر، والحيلولة دون استخدام أرضه، وإنسانه لتصدير المشاكل إلى أراضينا المتاخمة له. إنه بوضعه الحالي حاضن ملائم لتخصيب [الأيديولوجيات]، وتنفيذ اللعب المصميات.
الدول الانقلابية الحالمة بتصدير الثورة، وهيمنة الطائفية، والتوسع الاقليمي، تجد في [اليمن] مجالًا واسعًا، لتمرير الأحلام الطائشة، وتحقيق التطلعات الباذخة. ومن هنا يظل [اليمن] مصدر قلق في المنطقة. وأرجو ألَّا نكون مسؤولين عن أمنه لأن الثمن إذًا سيكون باهظا.
لقد قلت في أكثر من مقال: إن علينا الاستنجاد بـ [سور الصين] لتأمين حدودنا، ومن أراد من عقلاء [اليمن] وقبائله، وسائر مكوناته الاستفادة من خيراتنا، فليأت البيوت من أبوابها. فهم أحق من غيرهم للجوار، والعروبة، والإسلام.
إن علينا استبعاد الكلمات العاطفية، والتعبيرات [الدبلوماسية]، فالوضع لايحتمل المجاملة، ولا التورية.
[اليمن] منذ أن اصطلحنا مع أئمَّتِه في غابر الأزمان، ونحن نتلقى الطعنة تلو الأخرى. وفي كل مرة نؤجل الحل الحاسم. واليوم لابد من المكاشفة، وتحديد المسؤولية.
وبإمكان [اليمن] العربي، المسلم، المجاور أن يشاركنا أمننا، ورخاءنا، واستقرارانا، متى حسنت نوايا أهله، وسلمت مقاصدهم.
قدرنا العصيب أننا قَلَّبْنَا مع [اليمن] كل الأمور، وجَرَّبنا كل الحلول، وأضعنا في سبيل ذلك الجهد، والمال، والوقت. ولم يبق إلا أن نجعل بيننا، وبينهم ردما.
الحل الذي لم نمارسه بعد، يتمثل في إقامة [سَدٍّ] منيع، لايستطيع المفسدون من جهلته أن يظهروه، وما استطاعوا له نقبا.