د. خيرية السقاف
للمنابر هيبتها, تكتسبها من هيبة فكر, وفصاحة لسان, وحجة عقل, ومعرفة جنان الذي يعتليها..
ويتصدى لها, ولها سطوعها حين يصدح فوقها مبدع، أو ذو ابتكار..
وهي جاذبة للاقتداء باعتلاء العلماء منصاتها, والمعلمون الأكفاء حلقاتها.., والساسة المحنكون ساحاتها, المفحِمون المنصتينَ لهم بألقِ ذكائهم, ودهاء وعيهم..
وهي تقوى بهم, وتعتلي بقاماتهم.. وتؤثر بما يقولون عما يفعلون, أو يرون, أو يبتكرون..!
المنابر مختصرُ الجسور, وبؤرُ البوتقات, ومنطلقُ النبال, وفوَّهات الأنهار..!
فما حال المنابر الآن وقد زينتها المكبرات, واليافطات, وشاشات العرض, والأغطية المخملية وديباجات الحرير, وتناكب عليها من ليسوا بهذه الصفات..؟!
ما حالها وقد تعددت أشكالها, واستعيرت لها الأهداف, واستبدلت فيها القيم, وتغيرت أشكالها, ومواقعها تلك التي أتمها إتقاناً, ومثالية محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم, ومن اقتدى به وأحسن في الاقتداء.؟!
الآن كلَّ من «هبَّ دبَّ» فوقها, وكلَّ من صاح اعتلى منصاتها, وكلَّ من تجرأ أفسحت له مساحاتها, يوم غدت المنابر شاشات عارضة, ومرايا عاكسة, وقنوات موصلة, وجسوراً من ورق..!!
مع أن القيم, والأخلاق, والتعليم, والتوجيه, والبناء, والفكر, هي نباتها الذي أينع بعصبة الأخلاق, وأبنية الإنسان, ومنهاج الحياة, ونمط قواعدها, وأسس عمارها, وعلاقات البشر فيها, وأثمر بضوابط الحدود, وقوائم الحقوق, واخضر بمعنى الحقيقة, مغذياً مسالك الدارجين فوق الأرض بقوانين السلام, ومراجع الحق, ومصادر التعاليم, وأشرق بمصابيح دكت الظلام, من أجل الحياة في أقرب صور المثالية فيها لترقى بالإنسان, وليرقى فيها بفضائل رسالتها ما استطاع..
وهي في حلقات التعلم وسيلة ضاقت بثللها هذه الحلقات, أو اتسعت بمجاميعها..
خصَّت بقومها, أو عمَّت بشعوبها, توحَّدت بفكرها, ومعتقدها, أو تعدَّدت, هي وسيلة الإنسان من أجل الإنسان.. لا ليتدنَّى وإنما ليتعلَّى.., لا ليشقى, بل ليسعد, لا ليُظْلَم بل ليمتَّع بحقه في عدل..!
قاد الإنسانُ الإنسانَ في ساحة سِلْم, وفي مضمار حرب بأصواته كلها: عقله, جِنانه, لسانه, بيانه لا يخفت له قلب, ولا تلجم أثارها..!!
الآن في واقعنا, ومع تداعيات الأحداث من حولنا وبيننا, يلحُّ الوقت للمنابرة الذكية, الواعية, بكل وسائلها وأصواتها, يعتليها ذو الحكمة, والحجة, والتأثير والمضمون, والمعرفة, والذكاء..
إنه وقت الحُجة بها لمقارعة المفوهين المفرغين, والكاذبين المضللين, والسذَّج الهارفين بما لا يعرفون, والمتقصِّدين المتسللين من تحت الطاولات, وأولئك المشاغبين بإعلامهم, وأباطيلهم, من يصارعوننا بغلبة الصوت, وقوة السيادة, ووهم الصداقة, وشراكة المنافع, من يُعَمُّون الحقائق بجلبة منابرهم, وبالقرع على طاولات مجالسهم, وبالضغط على مفاتيح قنواتهم وقدراتهم..!
ونحن طيبون بأكثر مما ينبغي, انبهرنا بهم فاقتفيناهم، ووثقنا بهم فصدَّقناهم, وتحللنا من كثيرنا فسكتنا أمامهم, ومن ثم ترشقنا اليوم نبالهم من كل صوب..!
كذلك هو الوقت الحاسم ليعلو صوت التربية, والتعليم, والإعلام, والثقافة, والصناعة, والإنجاز, صوت التوعية للفرد منا, والجماعة أيضاً, لإعادة غرس ما أفنته العواصف, وإنبات ما أفسدته الغفلة, ورتق ما انشق من لحاء شجرة الثقة, والرضا, والاتفاق, والسلم بين الفروع والغصون، ولحم ما تمزق من متين الأسس, وجميل العلاقات, واستعادة ما تاه من فضائل القيم, وشد العزائم للتطهر من وهم الانقياد, وآثار العفوية, ورخو الأبنية المختلفة في الفرد منا!!
فلتصبح المنابرة مناورة ذكية لاستعادة دفة الاعتدال في مركب النجاة حيث البحر هائج، والفوضى تعم, ونحن بحاجة لأصوات قوية في ثقة واعتداد, بيقين أن من يفكر سيصنع، وأن من يعرف سيوظف ما يعرف، وأن من يستيقظ لا بد سيتكلم، وأن للكلام مكانة ووسائله, ومضامينه وأهدافه, ودعائمه وحججه, فليكن كلامنا فعلاً, وصوتنا جهراً, وثباتنا معا على الجادة نحو تمكين الذات, واستلام الدفة, فلدينا ما يؤهلنا إن جعلنا حجتَنا حكمتُنا, وهدفُنا حياتَنا في هذا العالم الذي يعبُر بأضيق أزماته وأشدها اختناقاً، وأفدحها خيبات على مستويات القيم, والأخلاق, والفكر, والمُثل, والغايات, والنوايا, والمصالح, والمسالك, والإنسانية بتفاصيلها...!!