إبراهيم عبدالله العمار
تشكيل الرأي عند الإنسان يبدأ في مرحلة باكرة. إن الرأي لا يظهر عند الإنسان بعد أن يدخل المدرسة ويتعلم، بل قبل ذلك بكثير. وكلمة «بكثير» هنا في مكانها؛ لأن الإنسان يبدأ تكوين آرائه قبل أن يولد!
لاحظ العلماء هذا؛ فالجنين يسمع صوت أمه، فيولد وقد تشكلت في ذهنه قواعد اللغة، وكذلك يميل لصوت أمه ويميزه من بين غيره. والرأي الحقيقي يتشكل باكرًا جدًّا في عمر بضعة أشهر، وهذه أظهرتها تجربة لطيفة على رضع في عمر 6 أشهر: الرضيع يشاهد متسلقًا (المتسلق مجرد قرص خشبي له عينان)، فيبدأ المتسلق من سفح التل، ويحاول الصعود، لكن يفشل باستمرار، وبعد فترة يظهر «المساعد» (مثلث)، فيذهب للسفح، ويرفع المتسلق ليعينه على الصعود، وفي محاولات أخرى يأتي «المعيق» وهو مربع له عينان، ويحاول إعاقة المتسلق، وذلك بأن يذهب لقمة التل، ويدفع المتسلق للأسفل. رأى الرضع هذا المشهد، وكونوا رأيًا: إنهم لا يحبون المعيق! كيف عبّروا عن هذا وهم مجرد رضع؟ بالطريقة نفسها التي يعبّر بها بقية البشر عن عدم رضاهم عن شخص بأن يهجروه. عندما أعطى الباحث تلك الأشكال الثلاثة للرضع ليلمسوها تردد الرضع في الإمساك بالمعيق، بينما لم يترددوا في الإمساك بالمساعد. إضافة لهذا، عندما كرر الباحث التجربة لكن هذه المرة وضع محايدًا (لا يساعد ولا يعيق) فإن الرضع اختاروا أن يلمسوا المساعد أكثر من المحايد، واختاروا المحايد أكثر من المعيق!
كل الناس لهم آراء في طفولتهم، شكّلتها تجاربهم وقراءتهم، وأنا منهم طبعًا، وإذا التفت للماضي قارنت آراء الطفولة بالواقع، ورأيت فرقًا كبيرًا. فمثلاً: كنت أظن أن الطفولة سجن والرشد حرية؛ فقد كنت أعيش تحت قوانين أهلي والمدرسة والكبار عمومًا؛ فلا أستطيع الذهاب للمكان الفلاني لأنه خطر (قريب من تيار كهربائي مثلاً)، لكن أحيانًا العكس صحيح عندنا نحن الكبار: سن الرشد يبدو سجنًا أحيانًا لما فيه من مسؤوليات وضغوط وهموم لا منجى منها، والطفولة البريئة الخالية من تلك السموم النفسية هي الحرية التي لا مثيل لها.
أيضًا كنت مثل الكثير من الطلاب أضجر من المدرسة، ولما سمعت عن فكرة التقاعد، وكيف أن الشخص يستطيع أن يجلس في البيت بلا عمل أو دراسة، تمنيت يوم التقاعد! لكن أدركت أن هذا ليس شيئًا حسنًا في ذاته بل الجلوس بلا هدف أو مشروع أو إنجاز من أسوأ ما يمكن أن يفعله البشر، وحتى من تجاوز المئة من عمره لا بد أن يعمل كل يوم من أجل هدف نبيل، سواء القراءة أو تعليم الغير أو تربية الصغار أو الزراعة أو أي شيء نافع.
أيضًا كان هناك ظن بأن النصح يصلح دائمًا بشكل مباشر حتى بفظاظة وحدة، لكن عرفت لاحقًا أن هذه طريقة تضمن لك أن المنصوح سيكرهك أنت ونصيحتك.. أسلوب سيأتي بالعكس في الغالب. أستغرب أن الكثير من الناس ما زالوا لم يتعلموا هذا الدرس، ولا يتعاملون مع غيرهم أو أبنائهم إلا بالصراخ والغلظة إذا أرادوا تأديبهم أو تعليمهم.
نكبر ونتعلم.