تابعت باهتمام شديد مؤتمر غروزني في الشيشان والذي انعقد في الأيام القليلة الماضية، ولا أريد أن أخوض في تفاصيل توصياته فقد سبقني في إبداء ملاحظات عليه «الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء» ومنظمات إسلامية عديدة بالإضافة إلى بعض العلماء المعتبرين في العالم، وقد وفقوا بحمد الله وتوفيقه في تحليلاتهم لمخرجات هذا المؤتمر، والذي حتماً إذا لم تتم مراجعته فسيفضي إلى النعرات الطائفية وإشعال نار الكراهية والفتنة والحروب بين المسلمين، وأنا لا أريد أن أتحدث عن هذا المؤتمر، ولكن سأتناول ما تعرض له شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من هجوم واسع من بعض المشاركين فيه، واتهام فتاواه بتفريخ الإرهاب - زعموا -.
وحقيقة هذا الكلام لا يسنده دليل ولا برهان وإنما هو اسلوب يستخدمه خصوم ابن تيمية لاجتثاث فهمه الواقعي والوسطي المستمد من الكتاب والسنة، واستبداله بفكرهم الباطل الذي يسعى لتفريغ الدين عن مضمونه وتميعه ليكون اشبه بالعلاقات العامة.
ان الذين يعادون شيخ الاسلام بن تيمية لا شك أن لهم أهدافاً غير معلنة ولكنها لا تخفى علينا، فشيخ الاسلام ابن تيمية له اثره الكبير في الدفاع عن الإسلام ومحاربة أعدائه، فقد كان- رحمه الله - ناصراً للسنة وقامعاً للبدع والخرافات والانحرافات العقدية، وهو اول من كسر الجمود الفقهي وفتح باب الاجتهاد فكان المجتهد الرباني، فكل فتاواه كانت مسددة وموفقة عالج بها واقعه، ولازال العالم يستفيد من فتاواه في القرن الحادي والعشرين وحتى المخالفين له يرجعون اليه في الفتوى، وما فتوى وقوع الطلاق بلفظ الثلاث في مجلس واحد كطلقة واحدة رجعية، إلا شاهد على عظيم فقهه ـ رحمه الله ـ، وعلى هذه الفتوى أخذت معظم المحاكم في العالم بهذا القول حرصاً على تماسك الأسرة وحفظاً للذرية من التشتت والضياع خاصة مع غلبة الجهل بكثير من أمور الدين.
إن سر معاداة شيخ الاسلام قديماً وحديثاً هو ما كان يتمتع به من مواهب وعلوم ومنهج وسطي في الاعتقاد والمعاملات يقول الحافظ البزار:
«سبب عداوتهم ـ أي خصوم ابن تيمية ـ له أن مقصودهم الأكبر طلبُ الجاه والرئاسة وإقبال الخلق ورأوه قد رقاه الله إلى ذروة السنام من ذلك ما أوقع له في قلوب الخاصة والعامة من المواهب التي منحه بها، وهم عنها بمعزل فنصبوا عداوته وامتلأت قلوبهم بمحاسدته». (الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية للحافظ عمر بن علي البزار،ص34).
ان معاداة ابن تيمية ومدرسته نابعة أساساً من أنه البطل الذي فضح الرافضة وكسر شوكتهم وهتك ستار الصوفية الباطنية التي شوهت جمال الدين بالخرافة وعبادة غير الله، بل وتصدى للتتار حينما تراجع أقرانه في العلم واعتكفوا في المساجد ونادى حي على الجهاد حتى أخرس صوت التتار.
ان معاداة ابن تيمية هي محاولة لاحياء الفكر الظلامي والأمية الدينية التي سادت في عهده رحمه الله ولا نزال نعيش اثارها في القرن الحادي والعشرين.
إن التطرف الذي يشهده العالم اليوم ليس وليد فكر ابن تيمية وانما هو ناتج عن الجهل والفهم السقيم للدين، وابن تيمية فهمه واضح في التكفير والخروج على الحكام ومبارزتهم بالسيف، ويعتبر الخروج عليهم خروجا عن مذهب أهل السنة والجماعة، حيث يقول «ان المشهور عند مذهب أهل السنة أنهم لا يرون الخروج على الأئمة وقتالهم بالسيف وان كان فيهم ظلم، كما دلت على ذلك الاحاديث الصحيحة المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الفساد في القتال والفتنة اعظم من الفساد الحاصل بظلمهم بدون قتال ولا فتنة، فلا يدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما، ولعله لا يكاد يعرف طائفة خرجت على ذي سلطان إلا وكان في خروجهما من الفساد ما هو اعظم من الفساد الذي أزالته» (منهاج السنة النبوية ج3،ص391).
كما أنه يحرم قتل النفس الطاهرة إلا بالحق ويحرم قتل الذمي المعاهد بل كان يدعو إلى فك الاسرى منهم في الحروب، فكلنا يعلم أن ابن تيمية «حينما تغلَّب التتارُ على الشام، ذهب ليُكلِّم «قطلوشاه» في إطلاق الأسرى، فسمح القائد التتري للشيخ بإطلاق أسرى المسلمين، وأبى أن يسمح له بإطلاق أهل الذمة، فما كان من شيخ الإسلام إلا أن قال: لا نرضى إلا بافتكاك جميع الأسرى من اليهود والنصارى، فهم أهل ذمتنا، ولا نَدَع أسيرًا، لا من أهل الذمة، ولا من أهل الملة، فلما رأى إصراره وتشدُّده، أطلقهم له» أصول الدعوة وطرقها، من إصدارات جامعة المدينة، ص256.
ومما يعجب له المرء أن ينسب الجهلة وأصحاب الهوى أن التطرف الحالي ناتج عن فكر ابن تيمية، وهو قول غير صائب بل الصحيح أن أصحاب التكفير هم الذين يخالفون تعاليمه ومنهجه الوسطي، فهم الذين كفروا مجتمعاتهم، واستباحوا الدماء البريئة بغير حق، فلم يسلم منهم مسلم ولا غير مسلم، وهذا بخلاف مذهب ابن تيمية الذي لا يكفر المسلمين إلا بعد توفر شروط و انتفاء، حيث يقول رحمه الله في مجموع الفتاوى، ج12، ص466: (ليس لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة، ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك؛ بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة)، وللأسف ان الذين نسبوا التكفير والارهاب الى مؤلفات ابن تيمية لم يقرؤوه بتدبر وفهم وانما اخذوا بجزء من كلامه دون ان يفهموا كلامه في سياقه الصحيح، وانما فهموه على نسق (ويل للمصلين)، ولكن أعداؤه أرادوا بذلك ان يستغلوا أحداث التطرف لإدانة فكره ولكن هيهات!!.
ان محاربة اعداء الأمة لابن تيمية هي محاربة لعقيدة أهل السنة والجماعة ومحاربة لمنهج الوسطية والاعتدال.
وان الهجوم على ابن تيمية هو رجوع لعهود التيه والضلال والانحطاط الفكري واغلاق لأبواب الاجتهاد الرباني واحياء للبدع والفكر الباطني الفارسي.
إن خصومه حينما عجزوا عن مقارعته الحجة وُضعوه في السجن فسعوا فيه كشرذمة منبوذة إلى السلاطين بالكذب والتلبيس وكتابة التقارير الكيدية التي تنم عن رداءة في النفوس وقذارة في الأخلاق وسوء معدن وتربية!
لقد كان مفتاح شخصية شيخ الإسلام رحمه الله هو ما قاله العالم الجليل ابن فضل الله العمري عن ابن تيمية: «وكان ابن تيمية لا تأخذه في الحق لومة لائم وليس عنده مداهنة وكان مادحه وذامه في الحق عنده سواء»، الرد الوافر، (محمد بن أبي بكر بن ناصر الدين الدمشقي، تحقيق زهير الشاويش، ص66).
واليوم يسير خصومه على نهج اسلافهم لا لمعاقبته جسديا هذه المرة وانما بمحاربة فكره وازالة مؤلفاته من المكتبة الإسلامية، وإزالتها من العقول والفطرة السليمة ولكن هيهات.
وإن الهجوم على شيخ الإسلام ابن تيمية يعد مهزلة وإساءة لشيخ خدم الاسلام وتصدى للباطل وكرس حياته لنصرة الدين، فقد كان منصفا وعادلا مع كافة الخلق ولا سيما مع خصومه واعدائه، ولبيان ذلك سأذكر مثالاً واحداً من لطفه وسماحته مع خصومه حتى يعرف الناس معدنه وطيب سريرته، ومن ذلك ما قاله في الفتنة التي كانت بينه وبين مخلوف» وأنا والله من أعظم الناس معاونة على إطفاء كل شر فيها وفي غيرها وإقامة كل خير وابن مخلوف لو عمل مهما عمل والله ما أقدر على خير إلا وأعمله معه ولا أعين عليه عدوه قط ولا حول ولا قوة إلا بالله هذه نيتي وعزمي مع علمي بجميع الأمور فإني أعلم أن الشيطان ينزغ بين المؤمنين ولن أكون عوناً للشيطان على إخواني المسلمين ولو كنت خارجا لكنت أعلم بماذا أعاونه، لكن هذه مسألة قد فعلوها زوراً والله يختار للمسلمين جميعهم ما فيه الخيرة في دينهم ودنياهم ولن ينقطع الدور وتزول الحيرة إلا بالإنابة إلى الله والاستغفار والتوبة وصدق الالتجاء فإنه سبحانه لا ملجأ منه إلا إليه ولا حول ولا قوة إلا بالله». مجموعة الفتاوى، ج3 ص271.
ومن المواقف التي تدل على سلامة صدره أنه لما مات أحد أعدائه قام بواجب العزاء وواسى أهله وفي ذلك يقول ابن القيم - رحمه الله - «وما رأيته يدعو على أحد منهم قط وكان يدعو لهم، وجئت يوماً مبشراً له بموت أكبر أعدائه وأشدهم عداوة وأذى له فنهرني وتنكر لي واسترجع ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم وقال: إني لكم مكانه ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه، ونحو هذا من الكلام، فسروا به ودعوا له وعظموا هذه الحال منه فرحمه الله ورضي عنه» مدارج السالكين، ج2 ص 345.
كما كان له دور مميز في احتواء الفتنة التي كانت بين الحنابلة والأشاعرة، حيث قال رحمه الله:
«والناس يعلمون أنه كان بين الحنبلية والأشعرية وحشة ومنافرة. وأنا كنت من أعظم الناس تأليفًا لقلوب المسلمين وطلبًا لاتفاق كلمتهم واتباعًا لما أمرنا به من الاعتصام بحبل الله، وأزلت عامة ما كان في النفوس من الوحشة وبينت لهم أن الأشعري كان من أجل المتكلمين المنتسبين إلى الإمام أحمد رحمه الله ونحوه، المنتصرين لطريقه، كما يذكر الأشعري ذلك في كتبه.
ثم قال: وكنت أقرر هذا للحنابلة وأبين أن الأشعري وإن كان من تلامذة المعتزلة ثم تاب، فإنه كان تلميذ الجبائي ومال إلى طريقة ابن كلاب وأخذ عن زكريا الساجي أصول الحديث بالبصرة ثم لما قدم بغداد أخذ عن حنبلية بغداد أمورًا أخرى، وذلك آخر أمره كما ذكره هو وأصحابه في كتبهم « مجموع الفتاوى، ج 3ص227، فهل من كانت هذه أخلاقه ينعت بالإرهاب والتكفير؟ ما لكم كيف تحكمون؟.
إن الذين يحاربون ابن تيمية اليوم هم نفس الذين حاربوه بالأمس، والفارق بين الذين حاربوه بالأمس والذين يحاربونه اليوم ان الأولين عذبوه جسدياً ورموه في ظلمة السجن أما الآخرون يدعون لإزالة فكره المستنير لتعود الامة الى التيه والضلال، ولهذا يجب أن لا تنطلي علينا مثل هذه الشبهات التي تنال من شيخ جاهد بنفسه وماله وقلمه لإعلاء كلمة الحق، فطبت ميتاً وحياً يا شيخ الإسلام، وجعل ما تركه من إرث علمي وأعمال جليلة تخدم الإسلام في سجل حسناته.