على الرغم من أن نظام التحكّم المؤسسي أو ما يُعرف بـ»الحوكمة» يُعنى أولاً بإيجاد بيئة اقتصاديّة مزدهرة تتأسس على مبدأي الشفافيّة والمساءلة سواء في الجهات الحكوميّة أو الشركات الخاصة، إلا أن له انعكاسه الإيجابي على كافّة أفراد المجتمع لارتباطه الوثيق بالمصالح العليا للاقتصاد الوطني، ومكافحته للمتلاعبين والفاسدين الذين يكبدون الدولة والشركات خسائر فادحة سنوياً.
وتنفيذ نظام «الحوكمة» يأتي على رأس القرارات الضابطة لحركة الاقتصاد الوطني نظير فرضه لرقابة أكثر صرامة على تحركات صنّاع القرار، ليس في الشركات فحسب، بل وفي الجهات الحكوميّة كذلك، ويتصدى بقوّة لحالات الهدر المالي والفساد الإداري المتمثل بالمحسوبيّات والواسطة التي أسهمت في تغييب مفهوم التنافسيّة داخل بيئة العمل، وهي تعيد العربة إلى مسارها الصحيح، وتمنح الكفاءات فرصة أكبر للمساهمة في العمليّة التنمويّة، وتوجد أرضيّة قائمة على المساواة بين كافّة شرائح المجتمع.
المساءلة والشفافية خطوتان بارزتان في أي مشروع تنمويّ يروم الارتقاء بالوضع الاقتصادي سواء في المملكة أو في أي دولة أخرى، في السابق كانت الرؤى الاستراتيجيّة للجهات الحكومية أو شركات القطاع الخاص يضعها المجلس الإداري في الوقت الذي لا يتحمّل أعضاؤه تبعات الخسائر الناتجة عن قراراتهم، أو فشلهم في تحقيق الوعود التي أعلنوا عنها، كما أنهم لم يكونوا مُلزمين بالكشف عن آليات عملهم أو كيفية تصرّفهم بالأموال العامة والخاصة، ومن هذا المنطلق يأخذ تطبيق نظام الحوكمة أهميته.
ونحن على أعتاب مرحلة اقتصاديّة جديدة، لم يعد للاجتهادات الفرديّة دور في هذا المجال، كما أن التراخي في تطبيق مبدأ المحاسبة هو الآخر لا يتناسب مع تحولات المرحلة والطموحات المستقبليّة، والمناصب القياديّة في وقتنا الراهن ليست تشريفاً أو ظهوراً إعلامياً فحسب، بل هي مسؤوليّة أمام الوطن والمواطن لها كلفتها، ما دمنا نسعى إلى مسابقة الزمن لتصحيح وضع اقتصادنا وتنويع مصادر دخله وإيجاد موارد جديدة لتمويل مشاريعنا التنمويّة.
مواطنون ومقيمون كثر فقدوا وظائفهم في جهات حكوميّة أو شركات كبرى بسبب سوء الإدارة، وكذلك بسبب تأخرنا في تطبيق نظام «الحوكمة»، والمجتمع كذلك خسر ولا يزال يخسر من الجهات التي تستغل أبناءه فيما يسمّى بالسعودة الوهميّة لغياب «الحوكمة» أيضاً، واقتصادنا الوطني عانى من توجُّس رؤوس الأموال الأجنبية لضعف النظام الرقابي واتباع سياسة عدم الإفصاح الحقيقي عن القوائم الماليّة، ومؤسساتنا الحكومية وقعت تحت وطأة المحسوبيات وهدر المال العام لذات السبب.
علينا أن ندرك بأنّ أي نشاط اقتصاديٍّ يحدث داخل المجتمع هو ليس حكراً على المساهمين الكبار أو اللاعبين الرئيسيين، هو ملك للمنتج والمستهلك والرئيس والمرؤوس على حدٍّ سواء، والحوكمة تأتي في هذا التوقيت للحد من استخدام النفوذ بهدف تحقيق مصالح شخصيّة لا يعود نفعها إلاّ لقلة قليلة لا تكاد تُذكر، بينما يكتوي بنارها آلاف المواطنين، فضلاً عن تأثيرها السلبي على الاقتصاد الوطني برمّته.
- ماجستير في النقد والنظرية