في هذا اليوم، الذي يشهد فيه السعوديون ذكرى تأسيس الدولة السعودية الثالثة، حريٌ بهم استحضار مقوّمات تأسيس هذه الدولة، والمفاهيم التي ارتكزت عليها؛ خاصة وأن قيام المملكة العربية السعودية في النصف الأول من القرن الهجري الماضي كان في وقت غلب فيه الشحّ المالي، وصعوبة المحيط السياسي، وتعدّد التحدّيات والخصوم؛ أي مما هو ليس عن الحاضر ببعيد. وقد نجح مؤسس هذه الدولة، الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود رحمه الله، في مشروعه التأسيسي رغم قلة ذات اليد في ذاك الزمان، ورغم ما أحاط بدولته من خطوب، وما شهدته منطقتها من فتن، استناداً إلى قيمٍ جسّدها، ومبادئ التزم بها، وممارسات سار عليها؛ كان لها الفضل الأول بعد الله في نجاح مشروعه التوحيدي الطموح، وما أفضى لحفظ هذه البلاد، وهيّأ لأن تنعم بالأمن والاستقرار والرخاء لما يزيد عن قرن مضى، ولا زالت. والسعوديون اليوم في حاجة لاستذكار تجربة المؤسس، وتجديد العهد بقيمه، والاقتداء به. فالحكمة تقول: «إنك لا تعرف إلى أين أنت ذاهبٌ، حتى تعرف من أين أتيت».
هذا موضوع لا شك كبير، والدارسون المتخصصون فيه أقدر على تناوله من كاتب هذه السطور، وهو في كل الأحوال موضوع لا يمكن إيفاؤه حقه في مقال مختصر كهذا. لكن ما لا يُدرك كُلّه، لا يُترك جُلّه، وربما أيضاً لا ضير في استعراض بعضٍ من مفرداته؛ تلمّساً لاسترجاع ما هو جدير بالاهتمام.
لقد نجح عبدالعزيز بتوفيق الله لأنه جمع كلمة السعوديين، وكسب تأييدهم الكبير؛ وذلك لخصالٍ عُرِف بها، ومبادئ مارسها. وأول ما تلزم الإشارة إليه من خصال عبدالعزيز هو تفرّغه الكامل لمهام الحُكم، والتزامه الكبير بواجباته ومتطلباته. فما عُرِف عنه انشغالٌ بشيء سواه، أو نُسب إليه ما لا يليق بالمقام الذي حلَّ فيه. لهذا، فقد كان عبدالعزيز قوي الجانب واثق الخطى، ما مكّنه من التصدي لكل ما كان يطرأ في زمانه من طروحات لا أساس صحيح لها، ولا مصلحة للوطن في القبول بها، أو المجاملة فيها.
وكان عبدالعزيز من النُبل، ما حفظ له الصديق، وأكسبه الخصم. فما عُرف عنه إساءة لصديقٍ وقف معه، أو انتقام من خصم زالت خصومته له. فجمع الناسَ من حوله، وكسب ثقتهم به، وحظِيَ بولائهم وإخلاصهم له. والأمثلةُ على هذا كثيرة، شهد بها مَن عمل مع عبدالعزيز، كما شهد بها من ناصبه العداء، ثم غدا واحداً من رعاياه، آمناً على نفسه، مطمئناً على عِرضه وماله. بل إن عبدالعزيز قرّب إليه كثيراً من خصومه السابقين، فنعموا بتقديره لهم، وغدا بعضهم من رجاله الموثوقين.
وكان لعبدالعزيز من رجاحة العقل ما جنّبه، وجنّب بلاده، خوض مغامرات غير محمودة العواقب. فلم يدخل في مواجهة لا قُدرة له عليها، أو بدأ في أمرٍ لم يعرف له مخرجاً منه. وكثيرة هي الأمثلة في هذا السياق، أشار إلى كثيرٍ منها المؤرخون المعاصرون له، كما أشار الدكتور غازي القصيبي رحمه الله في الصفحة 48 من كتابه «حياة في الإدارة» إلى مثالٍ لها، مما هو جديرٌ باهتمامنا في هذا الوقت بالذات.
وكان عبدالعزيز من الأريحية بأن كان دائماً على اتصال وثيق بمواطنيه، معهم في كل حال، بينهم في كل خطب. لهذا، فقد كان معايشاً لهموم المواطنين، عالماً بأحوالهم، ومشاركاً لهم فيها. سمعت من بعض من عاصر المؤسس قصصاً تحكي هذا الجانب من شخصيته مما قد يبدو لبعض القراء قليلي القراءة عنه وكأنها من قصص الأساطير المبالغ فيها، ولهذا فسأتجنب التفصيل واترك للقارئ البحث فيه والاستقصاء عنه.
إلا أن أهم ممارسات عبدالعزيز وأوجبها استحضاراً للسعوديين في هذا الوقت، وفي كل وقت، هو عدم تفرّده بالرأي، رغم مقامه الرفيع، وتجربته الواسعة، ونجاحاته الكثيرة. فقد كان من الحكمة بأن أحاط نفسه دائماً بكوكبة من الرجال المبرزين من مختلف الأنحاء، والخبرات، والتوجهات، من ذوي التجربة، وسداد الرأي. رجال كانوا يقولون لعبدالعزيز ما يلزم قوله له، لا مجرد ما يظنون موافقته لهواه. وكان عبدالعزيز يطرح أمور الحكم المهمة على هؤلاء، فيبدون آراءهم بها، ويتحاورون بشأنها في حضوره، ويستمع هو لهذه الآراء والحوارات، ثم يُقرر في الأمر؛ فيقوم قراره على قدرٍ كبيرٍ من الوعي بما يلزمه الإحاطة به، والتحوّط له، والتدبّر فيه. وعندما دخل عبدالعزيز الحجاز، انتقل بهذه الممارسة الشورية الفاعلة إلى مرحلة أخرى أهم، كانت بمثابة اللبنة الأولى لإقامة دولة المؤسسات في هذه البلاد، وذلك عندما أقر استمرار نواة مجلس الشورى القائم في الحجاز، وقتذاك.
في هذا اليوم الوطني، كما أن السعوديين معنيون بالاحتفال بذكرى تأسيس دولتهم، وتوحيد بلادهم، وما سعدت به من رقيٍّ واستقرار على مدى قرنٍ ونيّفٍ مضى، ولا زالت؛ فهم كذلك معنيون بحفظ مكتسباتهم، ومواصلة بناء دولتهم، وتأمين مستقبل أبنائهم؛ فيكون لهم ما يحتفلون به، ويتأملون في أسباب تحققه، بعد قرن ونيّف من الآن. والأماني لا تتحقق بالتمنّي، ولكنها تصير بعزم المخلصين، بمشيئة الله.
- زياد بن عبدالرحمن السديري