محمد أبا الخيل
تعلمنا من التاريخ ومن صعود وأفول الأمم منذ الأزل، أن الأمم تتقدم حضارياً أو تتقهقر بقدر ما توظف من طاقاتها الكامنة، هذه الطاقات هي مجمل النشاط الأنساني الجمعي للمجتمع والتي تتبلور في صورة تنظيم وعمل للدفاع عن كيان الأمة وحماية أمن المجتمع وتنظيم وعمل للاستفادة مما تخرج او تنبت الأرض لخلق منتجات سلعية أو خدمية ذات قيمة نفعية لذات المجتمع أو تفيض عن حاجته تصدر للبلدان الأخر مقابل منافع ومكاسب مادية ومعنوية، وتتبلورتلك الطاقات أيضا في تنظيم وعمل لتكوين نظام تواصل واتصال يسهل انتقال الناس ونقل المنتجات والمعلومات بين أجزاء بلاد الأمة ومنظومة تعليمية تكسب الأمة معرفة ومهارة في البحث والإستنتاج لتكوين منتجات فكرية إبداعية تحسن من قدرة الإنسان على خلق قيمة مضافة تفوق ما يستهلك. هذه الطاقات الكامنة تتمثل في قوة الجيش وكفاءته وتنظيم الأمن العام وتتمثل في كفاءة المصانع ومرافق الإنتاج وحسن منتجاتها وتتمثل في جودة الطرق والاتصالات وتتمثل في صلابة ودعم القطاع المصرفي والمالي لحركة التنمية والتطوير وتتمثل في كفاءة وجودة النظام التعليمي العام والعالي ومحصلة ذلك كله تتمثل في سمو وجدان المجتمع تجاه المسؤولية والإنتاج والتنافس والاكتساب المستدام للمعارف والمهارت.
منذ أن تأسست المملكة العربية السعودية وحكوماتها المتوالية بقدرما كانت تتحصل عليه من موارد، كانت تجهد في تمكين التنمية وتوظيف الطاقات الكامنة بقدرما يتاح لها ذلك، حصنت الحدود وأسست الأمن العام ونشرت التعليم ومهدت الطرق وبنت الموانيء ودعمت الزراعة ونظمت المدن ببلدياتها وعملت على توطين البادية في مدة تقل عن (50 ) عاماً، كانت الدولة تعتمد على الطاقات الكامنة في إنتاج البترول وخلق قيمته النفعية لتكوين طاقات كامنة جديدة تحسن من حياة المجتمع، ودورالمملكة في محيطها والعالم أجمع حتى أصبحت المملكة أحد أهم دول العالم تأثيراً في مجرياته السياسية والاقتصادية والفكرية.
بعد (86) عاماً من توحيد المملكة في دولة واحدة أصبحت هذه الدولة متشبعة بالطاقات الكامنة والتي تفوق بها كثير من البلدان، ففيها أفضل أنظمة الطرق في غرب آسيا وأحدث أنظمة الاتصالات وأكملها على مستوى العالم، وعدد كبير من المدن الصناعية المجهزة بالمرافق الحديثة، وآلاف المصانع المتنوعة وشركات صناعية أصبحت في مقدمة مثيلاتها العالمية، وقدرة إنتاجية للكهرباء تفوق إنتاج أي دولة في الشرق الأوسط بشبكة نقل وتوزيع تربط شرقها بغربها وشمالها بجنوبها، ومن الطاقات الكامنة في المملكة سعة جغرافيتها وتعدد مكامن معادنها وأحجارها وجمال شطئنها وكثافة غاباتها الجبلية و زراعتها المتنوعة، المملكة بلاد لا يعيقها أي عامل بيئي أوجعرافي أن تكون بلاد مثالية للبناء والاستثمار والتنمية والإعمار ,والحضارة التي يستلزم بناءها الاستفادة القصوى من طاقاتها البشرية الكامنة ,
ولكن من يقرأ الواقع يجد أن المملكة لديها طاقات كامنة هائلة ولكنها معطلة، فلا يعمل من مواطنيها في عمل إنتاجي سوى أقل من (30%)، ومعظم أولئك يعمل في القطاع العام، ويفوق الحاصلون فيها على شهادة الدكتواره (50000) دكتور وإنتاجهم من البحث العلمي لا يتجاوز بضع مائة بحث في السنة، فيها (28) جامعة معضمها لا يؤثر خدمياً أو ثقافياً في مجتمع منطقتها، أو المجتمع المعرفي بصورة عامة، فيها (11) بنكا ومصرفا مجمل ودائعها يفوق (400) مليار ريال ليس لها دور يذكر في تمويل المشاريع الإنتاجية الصغيرة والمتوسطة، أو يساهم في تنشيط الصادرات السعودية، فيها (11) مليون أجنبي ينافس مواطنيها في الوظائف والأعمال لأن المواطن غير ملائم أو مؤهل لتلك المنافسة، فيها (500000) سائق عائلي حتى لا تسوق فيها امرأة واحدة، فيها أكثر من (250000) فتاة جامعية لا تستطيع العمل لعدم مناسبة العمل المتوفر لظروفها، فيها أكثر من (1000) فرصة نشاط للترفيه والتبهيج الاجتماعي تواجه عقبات تأسيس بلدية واجتماعية، فيها شباب طموح للتغيير وخلق فرص عمل تعتمد على الفكر والإبداع التقني يفشل معظمهم في إقناع مستثمرين أو يرتهنون لشروط ظالمة مجحفة تعصف بمطموحاتهم.
الطاقات السعودية الكامنة والمعطلة لا يمكن لمقال كهذا أن يلم بها، ولكن إذا أردنا أن نعبر للمستقبل ونحقق التقدم الذي نطمح له، فعلينا تجاوز معيقات إستثمارطاقاتنا الكامنة المعطلة وعلينا اتخاذ خيارات صعبة ستجبرنا على تجاوز مسلمات باتت لا تخدم طموحنا الحضاري وإلا سيأتي يوم نلوم (من أخذ قطعة جبننا).