علي الدميني
يكاد نهر الشعرية السيال في ربيع تدفقه أن يكون علامة على خصوصية تجربة «فوزية أبو خالد» الطويلة في حضورها البهي عبر حقول عديدة أبرزها: الكتابة للصحافة، وإبداع الشعر، والبحث المعرفي والعمل الأكاديمي.
الافتتان «بالحرف» شغل مخيالها منذ الطفولة، فأصبحت الكتابة بيتها وعشقها ورفيق دربها وشريكها في فيضان الإرادة واحتمال مسيرات ومسرات التعب في مغامرة ومكابدة رفع صخرة سيزيف من أوحال الطين إلى هامات الشموس في الأعالي.
فيضان وعنفوان الإرادة هذا، غدا جزءاً من مكونات شاعرة عاطفية رهيفة كحد الشعرة وطفلة تحمل الورد وقسوة الشراسة، و طفى بها على يمّ التحديات الشخصية والاجتماعية والثقافية والسياسية، فلم تنسحب في حالات المواجهات المخاتلة والقاسية من المشهد إلى أقبية الصمت أوالحداد أو الانكسار، وبقيت نخلةً سامقة في هجير الصحاري وعتمة دروب المسيرة.
إنها امرأة ذات تكوين خاص تجيد الحرب بالكلمة، وعن نيران تنوّر هذا التكوين تقول: «كانت التجربة تمرّ بعدة خطوط متواترة ومتوترة من المد والجزر، من الشد والجذب، وكنت خلال تلك التجربة أعيش حالات في اللحظة الواحدة. كنت صبورةً ومعاندة وحالمة ومتعددة، ومبدأية» ( الأعمال الشعرية الكاملة - ص 49)
في صباها المبكر الذي يقترب من زمن الطفولة، ومنذ عام 1969م بدأت طريقها الطويل في تلمّس «لذة» الجمر في حرائق الحرف، فكتبت زاوية أسبوعية في جريدة عكاظ تحت لافتة «قطرات»، و مضى بها ولع الحرف المرتبط بمعنى الوجود الفردي والجمعي إلى كتابة القصيدة، والبحث، والدراسة، والاشتراك في ورش العمل، وحمل الهموم الاجتماعية والثقافية والسياسية، لتعلو في قصيدتها وكتابتها من أن تكون تلك الهموم مجرد حالات يومية عابرة، إلى أن تتجسد كتابةً إبداعيةً من لحم ودم وضمير وطني وإنساني مقاوم لكل أشكال الألم والتخلف والاستبداد الذي تمارسه كافة المؤسسات الناظمة لحياة الإنسان والوطن والأمة العربية.
وبالرغم من كل ذلك النتاج الغني والممتد باتساع زمن يربو على 45 عاماً، و بالرغم من حضورها اللامع الذي ظل يكبر بارتفاع قامتها الثقافية الممتدة على مدى النظر، محلياً وخليجياً وعربياً، إلا أننا لم نر دراسات عميقة وجادة تحتفي بهذا النهر السيال الذي انفطر من «قطرات» عكاظ وحتى اليوم!
ولعل هذه الالتفاتة الثقافية النبيلة من جمعية الثقافة والفنون بالدمام – بقيادة شاعرها ومديرها أحمد الملا، في تسمية دورة مهرجان شعرها لهذا العام 2016م باسم فوزية أبو خالد – تفتح الباب للتعرف على خصوصية وخصوبة ما أنتجته الشاعرة في الحقول العديدة التي خضّبت بيديها كل ملامحها، رغم كل العقبات التي واجهتها في مساربها وطرقاتها الطويلة.
وحيث أن المجال - هنا - لا يتسع للوقوف على أهم مرتكزات منجزها الثقافي والإبداعي والاجتماعي، فإنني سأكتب فقط - و في عدة حلقات قصيرة - بعض لمحات تهتم بجوانب من تجليات شعريتها، تشكيلاً ودلالات، مؤكداً منذ البدء على أنه يمكن للقارئ المهتم أن يضع يديه على نضج وتميز أدوات الشاعرة منذ ديوانها الأول وحتى اليوم، و لكننا سنرى تنوعاً في صفات النشيد عبر مراحل ثلاث:
أ ــ مرحلة الثورة الغنائية في بعدها الملحمي.
وتتسم شعرية المرحلة الأولى بنبرة غنائيتها العالية التي يتعالق فيها بعدا الرومانسية والواقعية النقدية، المنسوجة من جدل الذاتي والموضوعي والخاص والعام. و لكن صوتها قد اهتم بالتقليل من الخطابية والمباشرة، واستعار بدلا من ذلك نبرة الإيحائية العالية في أبعادها الكنائية والاستعارية، وحرارة وصدق الانفعال والتفاعل التي يتراسل فيها وجع الذات وكينونة الأنثى المثقفة مع قضايا وهموم واقعها الوطني والعربي. و قد تبدى كل ذلك في ديوانيها: الأول «إلى متى يختطفونك ليلة العرس»، الصادر في عام 1975م، و الثاني الصادر بعنوان « قراءة في السرّ لتاريخ الصمت العربي» في عام 1982م.
ب ــ مرحلة التكثيف الشعري في بعده التأملي.
وهي مرحلة التأملية الثقافية في بعدها الوجداني الخصب، حيث استطاعت أن تحيل جدل العلاقة بين الذات وتفاصيل اليومي والعادي والمهمش إلى حالة تعبيرية ترسمها بالكلمات، وبالقليل من حرارة الانفعال الغنائي، لنرى النص وقد اقترب من رسم المنحوتات المقطرة من لغة عذبة وتأمل ثقافي شاسع ومفتوح على فضاء الترميز وتعدد حقل الدلالات والقراءات أيضاً. ويمثله ديوانا «ماء السراب» الصادر في عام 1995م، و إلى حدٍ ما ديوان «مرثية الماء» الصادر في عام 2005م.
ج ــ مرحلة الشعرية الشيئية.
وتحتفظ هذه المرحلة بنفس خصوبة و توهج الانهمام الثقافي التأملي، و لكنها تمضي إلى تجريب مختلف تذهب فيه العين الثالثة إلى الحلول في قلب الأشياء والروائح والمياه، لاستنطاقها رمزية الحب والوجع والألم والمكابدة، والعناء والمعاندة التي توازي ما يكمن في قلب الإنسان وواقعه اليومي القارس. إنها مرحلة نطق الأشياء وصراخ الأمكنة، وتجسيم الرائحة والمياه كأشياء ملموسة. وتتمثل في دواوينها الثلاثة الأخيرة (شجن الجماد ، ملمس الرائحة، ومخطوطة الديوان الأخير عن «الماء»).
وسنقف على بعض تجليات تلك المراحل هنا وفي حلقات قادمة:
المرحلة الأولى:
(1)
تفتحت تجربة الشاعرة في مناخ حواضن واشتغالات حداثة قصيدة التفعيلة وتطوراتها الهامة على الصعيدين المتواشجين جمالياً ودلالياً ، وتعالقت قصيدتها المبكرة مع تجربة تشكيل الحداثة الشعرية، المرتكزة - بحسب محمد العلي - على :
{ « بلاغة الغموض ( والانتقال من المعنى المباشر إلى الإيحاء)
الإيقاع ( الموسيقى ، و الإيقاع الداخلي)
الصورة الشعرية
الرؤية ( الرؤيا)
الرمز و الأفق الأسطوري
بناء التشكيل الفني «}
ورغم أنها اختطت منذ البداية طريقها إلى قصيدة النثر، إلا أنها قد وظفت بطريقتها الخاصة معظم تلك الركائز لبناء أنموذحها الفني للتعبير عن جدل علاقة الشاعر بواقعه الثقافي والسياسي وارتباطه باللحظة التاريخية المحددة، التي برزت بعد هزيمة حزيران 1967م، لتعبر عن رؤية نقدية وثورية إزاء الواقع السياسي العربي المأزوم في واقعه الاقتصادي والاجتماعي والديموقراطي من الماء إلى الماء، فتبدت كعاصفة غضب لامست أعماق الجروح و مظاهر الاستبداد وتغييب الإنسان عن الفعل الحضاري والفاعلية التقدمية، و أطلقت أصواتها من رحم الهزيمة وبقايا الحطام المعنوي والمادي كالعنقاء الخارجة من الرماد، متطلعة إلى إمكانية جديدة للتغيير والسير نحو طريق إعادة البناء والأمل والحياة الحرة الكريمة للشعوب العربية.
لذلك فإن ديوانها الأول «إلى متى يختطفونك ليلة العرس» الصادر في عام 1975م، و عبر هذه العلامة التساؤلية في أول عتبات النص الدالة، يشير إلى فواعل نصية جمالية محملة بالغضب والشك والنقض والتمرد واجتراح مواقف الرفض و المجابهة، بغية كتابة وجه أكثر ابتهاجاً بحياة الغد.
(2)
تتميز شعريتها في كل المراحل بمصادقة المجاز وتخليق وجوهه الجديدة، ( مثلما تقول عن أمها: «تلك السيدة على حد النظر»)، و بالولع بالحرف وتفتيق اشتقاقات الكلمة في الجملة الواحدة مثل قولها «شركاء شرَك الكتابة»، لتخلق حالة من رشاقة القول وسيولة التعبير ورقص الصورة الشعرية، حتى في أشد حالات الوجد والحزن والتمرد والألم، وهو ما أسمته «النزف الغدار بالجروح «، لنراها مندمجة حتى التماهي أو الحلول في كلماتها وأسطر جملها ومادتها التشكيلية ورؤيتها، حتى لا نكاد أن نفصل بين الشاعرة والحالة والكلمة.
(3 )
اختطت منذ البدء طريقها الخاص لكتابة صوت الأنثى المبدعة والمتمايزة عن ركام السنين الذي كدسته أقدام وآثار صوت الرجل في اللغة والخطابة والقوانين والكتابة، و ذلك من خلال ما تختاره من قاموس المفردات وما تسكه من التراكيب والصيغ التعبيرية، وعبر إحالاتها على الواقع الذاتي والموضوعي. و يتجلى ذلك فيما تتأمله أو تنفعل به جمالياً للتعبير عن همومها و قضاياها المنحوتة من مشاعر المرأة ومعاناتها وصراعها مع اللغة ومع المؤسسة الذكورية والسلطات القمعية عبر الزمن.
لذلك يمكن أن نعدها في طليعة المبدعات العربيات، أمثال أمل جراح وغادة السمان، وكوليت خوري، اللواتي قمن بتدشين طريق خصوصية الصوت النسوي في الكتابة، لغةً ومشاعر وقضايا وأحاسيس، غير أن الشاعرة لم تكن مع تطرف «النسوية الجندرية»، لأنها كمثقفة تقدمية تدرك أن الرجل والمرأة على السواء ضحايا أو ورثة لثقافة تاريخية عميقة في تألقها و في فداحة حمولاتها التي كرست التمييز ضد المرأة، وأن على الطرفين العمل العميق والجاد معاً على نقد ثقافة الذكورة التاريخية المسيطرة، وتخليق ثقافة جديدة تعتمد حقوقية العدالة والمساواة والتكافؤ بين قطبي البشرية القادرين معاً على صناعة مجد الإنسان ورُقيّ الحياة.
يتبع