د.عبدالله مناع
كـ(عادة) الصيف وأيامه.. المليئة بـ(الأخبار) الملتهبة.. كان صيف العام الماضي - الذي رحل عنا قبل أيام -.. طافحاً بما هو أسوأ من تلك الأخبار الملتهبة، فقد كان يتجشأ أخباراً كالزلازل والبراكين: بداية من الانسحاب البريطاني من (الاتحاد الأوروبي).. إلى الانقلاب الديني العسكري التركي الفاشل على (أردوغان) وحكومته ودولته.. وصولاً إلى شلالات الهجرة العربية وغير العربية المتدفقة من الجنوب والشرق إلى دول شمال البحر الأبيض أو غرب وشرق أوروبا: كفرنسا وألمانيا وأسبانيا والسويد والدانمارك واليونان وتركيا وبلغاريا ورومانيا وغيرها.. عبر قوارب الموت، وقطارات الجوع والعدم، وليل الضياع.. وانتهاءً بخير مشروع قانون (جاستا) الأمريكي لتحقيق العدالة ضد ممولي الإرهاب.. المريب، الذي لم يفكر أعضاء الكونجرس الأمريكي فيه، وفي اعتماده وإقراره لا في سنته الأولى ولا في دورتي رئاسة بوش الابن، أو دورتي أوباما التي توشك أيامها على النهاية بعد شهر.. إلا هذه الأيام وبعد خمسة عشر عاماً من حادثة الاعتداء على برجي التجارة العالميين في نيويورك في سبتمبر من عام 2001م.. والذي رفضه الرئيس أوباما حماية للمصالح الأمريكية من مطالب يابانية أو عراقية مماثلة.. إلا أن الكونجرس رفض رفضه؟! وظل مشروع القانون معلقاً بين (القبول) به.. داخل الكونجرس وأروقته، وبين (تعليقه).. من قبل الرئيس أوباما وإدارته!!
لكن.. مع شيوع الخبر، والتفاصيل التي صاحبت نشره وإذاعته.. كان يتضح أن مشروع هذا القانون - إذا تم إقراره - سيعطي أسر ضحايا ومتضرري أحداث الحادي عشر من سبتمبر الحق في مطالبة الدول التي ينتمي لها مرتكبو تلك الجريمة الإرهابية بـ(إدانة) المحكمة لهم أو بـ(اعترافهم).. كما هي الحال مع زعيم القاعدة، الذي قدم اعترافاً.. بأن أولئك الخمسة أو الستة عشر مواطناً سعودياً هم الذين ارتكبوا تلك الجريمة الإرهابية والتي أسماها تهكماً بـ(غزوة مانتهاتن).. تماماً كما أسمت الاستخبارات الأمريكية ضربتها الصاعقة لـ(هيروشيما) بأول قنبلة نووية في السادس من أغسطس من عام 1945م بـ(الولد الصغير)! وهي التي ذهب ضحيتها مائتي ألف ياباني!! ويعلم الله والراسخون في علوم الطيران المدني.. بأن ذلك العمل الإرهابي الجبار والخارق للعادة الذي استهدف البرجين، والذي لم يسبق له مثيل في التاريخ كله.. كان أكبر من (القاعدة) وإمكاناتها العلمية والمالية والاستخباراتية، وأنه فعل (دولة) ذات قدرات علمية واستخباراتية ومالية هائلة.. وليس فعل منظمة.. أو جماعة إرهابية.. أو حتى جماعات إرهابية مجتمعة..!
* * *
لقد تزامن مع الإعلان عن (جستا) واحتمالات مطالباته لـ(المملكة).. تسريبات أمريكية مريبة عن حجم ديون الولايات المتحدة الأمريكية التي بلغت عام 2016م خمسمائة وتسعين ملياراً من الدولارات.. وعن حجم الأموال السعودية في الولايات المتحدة الأمريكية، وأنها تبلغ سبعمائة وخمسين ملياراً من الدولارات، وهو ما أقلق الكثيرين.. وهم يربطون بين هذه الأرقام والتخفيضات التي حدثت مؤخراً في مرتبات الوزراء وأعضاء مجلس الشورى، وفي بدلات بعض القطاعات العسكرية والأكاديمية والصحية، وما قابلها من ارتفاعات في أسعار بعض الخدمات.. مخافة أن يوصلنا (جستا) إذا تم إقراره وتطبيقه إلى ما هو أسوأ وأخطر، وهو ما جعل الكثير من الإعلاميين.. يهاجمون (جستا) على نفس واحد، ويغمزون من علاقات المملكة مع الصديق الأمريكي الاستراتيجي.. الذي كانت أميز مزاياه في سنوات الحرب الباردة أنه لا يؤمن بـ(تأميمات) اليسار الاشتراكي البغيض..!! وهو أمر لا يصح أن يؤتي بـ(انفعال) وعصبية، أو بخلط بين (جستا).. والعلاقات السعودية الأمريكية.. بحيث يمتد غضبنا على (جستا) إلى العلاقات مع أمريكا، فـ(جستا) في هذا التوقيت العجيب والمريب.. يستحق الكشف والتعرية: فأين كان أعضاء الكونجرس طوال تلك السنوات الخمسة عشر.. التي حوكم فيها من حوكم من المتهمين.. ومات من مات منهم.. وأطلق سراح من أطلق منهم، وبصرف النظر عن حديث عجز الميزانية الأمريكية.. أو الأموال السعودية في الولايات المتحدة.. فإن طرح فكرة قانون (جستا) تبقى نوعاً - في هذا التوقيت - من أنواع البلطجة.. لا أدري كيف أقدم عليها هذا العدد من النواب بعد مضي خمسة عشر عاماً على حادثة انهيار البرجين..؟!
* * *
أما العلاقات السعودية الأمريكية.. التي كانت امتداداً لما كانت عليه الأوضاع قبل دخول الملك عبدالعزيز إلى (جدة) - عام 1925م -، وانتهاء الحرب مع الحسين وأبنائه.. إلا أنها شهدت في وقت مبكر من القرن الماضي أعظم إنجازاتها، مع قدوم رجل الأعمال والمليونير الأمريكي (شار لزكرين) إلى جدة في شهر فبراير من عام 1930م للقاء الملك عبدالعزيز.. فاستقدامه لمهندسه الجيولوجي الخبير (كارل توتشل) من مكاتبه في جنوب أفريقيا، لمعرفة ما في صحراء الجزيرة العربية من ثروات وكنوز.. فكان أن اكتشف وجود النفط في المنطقة الشرقية.. حيث تم توقيع أول وأهم اتفاقيته فيما بعد في شهر مايو من عام 1932م مع شركة (استاندرد أويل أوف كليفورنيا).. ليتدفق النفط في عام 1938م، ويعيش العالم رخاءً ورفاهاً نفطياً قاد عجلة حضارته، ليسفر بعد ذلك لقاء الملك عبدالعزيز في (البحيرات المرة) في فبراير من عام 1945م مع الرئيس (فرانكلين روزفلت).. عن إقامة خطوط إمداد برية لنقل النفط إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط.. وهي التي عرفت بـ (التاب لاين)، لتتطور العلاقات بعد رحيل الرئيس روزفلت فـ(الملك عبدالعزيز) إلى أعلى مستوياتها.. عندما بلغ عدد طلبتنا المبتعثين لـ (الولايات المتحدة الأمريكية) قرابة العشرين ألف طالب أو يزيد في ثمانينيات القرن الماضي.. لنكتشف أو ليتأكد لنا: أن أمريكا.. هي (أمريكتان): أمريكا السياسة الخارجية التي ترتكب من الفواحش السياسية ما لا يحطر على البال.. وأمريكا الشعب المهاجر الودود، والجامعات والإعلام والسيارات الفارهة والسينما وهوليود ونجومها وديزني وأفلامه.. حتى ليبدو أن لا علاقة بين الأمريكتين: المتوحشة سياسياً وإلى حد الخلاص من خصومها بقتلهم: كـ(اللنبي) في السلفادور و(نجوديم) في فيتنام الجنوبية، والودودة إنسانياً.. إلى حد السماح لكريماتهم بالاقتران بمن تشاء من الأغراب.
لقد أردت أن أقول من وراء هذه اللمحات التاريخية العاجلة.. أن ملف العلاقات مع الولايات المتحدة ضخم وكثير التفاصيل.. وهو في ظل هذا العمق التاريخي الذي يمتد لتسعة عقود.. رغم السلبيات التي تكتنفه.. والإيجابات التي تسطع فيه.. لا يصح أن يدار بـ(الانفعال) والغضب والعصبية في هذه المرحلة.. أو حتى بـ(البكاء) على مواقفنا المنحازة للولايات المتحدة طيلة سنوات الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي حتى سقط.. بل بالهدوء والمنطق والحجة والأناة.
* * *
فمشروع قانون (جستا)، الذي لما يستقر وضعه القانوني بعد.. ليس (إنجيلا) هبط على حواري الكونجرس!! أو ألواحاً.. جيء بها من طور سيناء!! ولكنها فكرة يطرحها الإفلاس، وإن لم تقم على أي سند: فأين أعضاء الكونجرس يوم الحادثة.. وأينهم وعمدة نيويورك يقف بالأيام على إزالة حطام المبنيين وبقاياهما.. وأينهم والرئيس بوش الابن يشن حرباً انتقامية ظالمة على أفغانستان رداً على الحادي عشر من سبتمبر.. وأينهم والطائرات الأمريكية السوداء تنقل المئات من المجاهدين عرباً وغير عرب إلى سجون أوروبا الشرقية للتحقيق معهم تمهيداً لاستقرارهم في سجن جوانتانامو الرهيب..؟
ولكن فكرة (الإفلاس) هذه التي ربما خطرت ببال أحد الأعضاء.. لن تتبناها في النهاية الإدارة الأمريكية الحالية - كما حدث - ولن تتبناها الإدارة الأمريكية القادمة - سواء أكانت جمهورية أو ديمقراطية -، لأنها ستحول الولايات المتحدة.. إلى (ويلات متحدة)!! لا يثق بها أحد.. ولا يقبل بها أحد،!! وهما أمران يناقضان سعيها الذي تحقق في أن تكون أعظم دول العالم وأقواها!!