د.عبد الرحمن الحبيب
في الوقت الذي تتقلص فيه دولة داعش متوجهة نحو السقوط، تتمدد حركة داعش وتنشئ فروعاً، ليس بالشرق الأوسط فحسب، بل في شرق العالم وغربه، وتنفذ هجمات تصل لدول بعيدة مثل إندونيسيا ودول لا صلة لها بكل ما يحدث مثل تايلاند.. مفارقة تحتاج وقفة!
من الطبيعي أن القضاء على داعش سيؤدي إلى انحسار خطره، لكن إذا استمرت البيئة الحاضنة له بالعراق وسوريا (فلتان أمني، وسوء الظروف المعيشية) فقد يظهر تنظيم جديد أشد وطأة، أو يظهر دواعش جدد. لنتذكر عندما انحسرت قوة تنظيم القاعدة، أتى داعش أشد عنفاً لأن الأوضاع ازدادت سوءا. من هنا لا يكفي مواجهة داعش عسكرياً وأمنياً بل بإستراتيجية شاملة تقضي على البيئة الحاضنة للتطرف: تواجهه مالياً بقطع مصادر تمويله، وفكريا بمواجهة دعايته والحد من الانضمام له.. والأهم من كل ذلك، تحسين ظروف المعيشة بإصلاحات سياسية واقتصادية..
الاكتفاء بالقوة العسكرية يمكن أن يؤدي إلى مردود عكسي حتى لو سقطت دولة داعش، فالعمليات الإرهابية لداعش والهجمات الفردية المناصرة له قد تزداد. هذا الاحتمال ترجحه كافة الإحصاءات التي أظهرت تصاعد وتيرة التفجيرات في بغداد خلال هذا العام بعدما انخفضت في العامين المنصرمين.. وكذلك تزايد التفجيرات في الغرب خلال العام الحالي ونهاية العام الماضي بعد توقفها النسبي.. لماذا؟
لأن داعش كان منشغلاً بتوطيد احتلاله للموصل وأجزاء من شمال العراق، لكن عندما ازدادت فعالية القوات ضده وفرضت نكسات عليه في ساحة المعركة، عاد إلى تصعيد تكتيكاته الإرهابية بعد انحسارها، حسب مايكل نايتس (معهد واشنطن) محلل المخاطر لأكثر من عقد في بغداد. كذلك أشار موقع «ضحايا حرب العراق» إلى أن المتوسط الشهري لأعداد قتلى التفجيرات في مختلف أنحاء البلاد تصاعد بحدة عام 2016.
فما هو المتوقع في المستقبل القريب بعد سقوط دولة داعش؟ وفقاً لدراسة ظهرت الشهر الماضي للباحث أوليدورت من جامعة جورج واشنطن (مختص بالجماعات الإسلامية بالشرق الأوسط) قام خلالها بمراجعة منهجية لإصدارات داعش، استنتج أنّ داعش كفكرة إرهابية سيبقى قائماً لفترة طويلة حتى بعد سقوط دولته. والسبب في ذلك أن التنظيم مستشعراً قرب سقوط دولته نشر تعليقات طويلة وكتيّبات في الإرشاد الديني تزامناً مع تعرّضه لكبرى هزائمه على مدى الأشهر القليلة الماضية.
الدراسة وجدت أن داعش أخذ في تبني إستراتيجية جديدة تقوم على: إلهام هجمات فردية لحشد أتباعه في الشرق والغرب والترويج لصورته، تعريفه الخاص للإسلام وتبنيه الحصري لمفهوم الخلافة، تركيز برنامجه التربوي على الجهاد للجميع من الأطفال إلى البالغين.. فضلاً عن تشفير برامج الحاسوب واستخدام الأسلحة. بذلك، سيحافظ التنظيم على ترسانته الفكرية التي بناها لتأمين معنويات أنصاره تحت شعاره البراق والفعَّال «خلافة على منهاج النبوة»، حسب الدراسة. ويؤيد مثل هذا الاستنتاج سيث جونز، مدير مركز سياسة الأمن والدفاع الدولي بمؤسسة راند للأبحاث، الذي عكف على دراسة وثائق داعش؛ وكذلك الباحث فواز جرجس، مؤلف كتاب «تنظيم الدولة الإسلامية».
بالمقابل، فالفصائل المتحدة ضد داعش ومعها القوى الخارجية، التي كانت بالأساس مختلفة حول إدارة المعركة، قد تواجه بعضها بعد تحرير الموصل؛ وثمة مخاوف من حرب أهلية فيها وسط دعوات عرقية وطائفية تعتبر الموصل مدينتها لا سيما أنها تزخر بتنوع عرقي وطائفي (عرب، أكراد، تركمان.. سنة، شيعة، أيزيديون).
أمام غياب الرؤية السياسية الشاملة للحكومة المركزية في العراق وعدم تمكنها مع البرلمان والتكتلات السياسية النظامية من تشكيل رؤية توافقية مشتركة، وعجز الحكومة عن تأمين الاستقرار الأمني والسياسي والاقتصادي، بدأت المليشيات الفئوية تحكم سيطرتها تدريجياً على أجزاء مختلفة من العراق الذي صار في مهب الريح الذي تثيره الفصائل المختلفة..
إذا تحدثنا عما بعد داعش، فعلينا تذكر عما قبلها، فقوة داعش بنيت على أنقاض فشل ذريع سياسياً واجتماعياً في البيئة العراقية التي ظهر بها، وبدلاً من تخفيف حدة الفشل امتدت النزاعات المتأججة إلى سوريا بحرب أهلية هي من أسوأ ما شهده العصر الحديث، واستقطبت شباباً غرَّاً من كافة الأقطار.. فإرهاب داعش يمثل استقطابا معنويا لجذب العقول المتطرفة اليائسة التي تنمو في حالات الاضطراب الحادة عندما يشعر الناس بالإحباط والقهر وأن ليس لديهم ما يخسرونه فيجربوا حتى الجحيم..
والآن، إذا أضفنا لهذا الجحيم القصف الروسي العشواني على المدن السورية، على المرء أن يتساءل أي خيارات لمن يعيشون تحت القنابل وفوق الدمار؟ هل يصمدون تحت سقوف لا تؤويهم أو يهاجرون نحو بلدان ترفضهم أم يتوجهوا لأقرب الخيارات المجهولة التي تصادفهم؟
عما قريب سيُقضى على داعش وخلافته المزعومة، لكن ماذا بعد؟ فقبل ذلك أدى انحسار تنظيم القاعدة الإرهابي إلى ظهور داعش الأشد إرهابا، بل وتجرأ على ادعاء الخلافة، فهل يأتي بعد داعش من يدعي قدسية أكبر وبوحشية أكثر إذا لم تتغير البيئة الحاضنة للتطرف؟ أغلب الوقائع تشير إلى أن داعش سيفقد خلافته قريباً لكنه سيستمر في عملياته التفجيرية على الأقل على المدى القريب، لكن لا أحد يمكنه التوقع على المدى المتوسط..