عبدالعزيز السماري
سخر الثوريون بعد اندلاع الثورة الشيوعية من مقولة استحالة القفز عن المراحل، لكن التجربة أثبت أن كل ذلك كان هراء، فالحقيقة أنه لا توجد مراحل في التاريخ، ولكن توجد تحولات وتطورات تتحكم فيها عوامل عديدة، ولعل كلمة السر في ذلك هو التطور من حال إلى حال، ويحدث ذلك بسبب تراكم خبرات المجتمعات المستقرة.
كذلك هو الحال في الاتجاه المعاكس، فعندما تعيد مجتمعاً مهيئاً للديموقراطية والتطور إلى أحضان الحكم العسكري والأمني تحدث الكارثة بكل تفاصيلها، ويتحول الوطن إلى أقرب ما يكون للسجن الكبير والساحة الكبرى للاعتقالات والاغتيالات، ولعل مثال ذلك تجربة مصر الأخيرة دليل وبرهان حي على ذلك.
في الاقتصاد أيضاً تصح مقولة استحالة قفز المراحل، فالتطور الاقتصادي يجب أن يأخذ مجراه في المجتمعات المستقرة، وأن يكون قفز المراحل بتدرج ووفق خطط متعاقبة، وتخضع لنظرية التطور الطبيعي في المجتمع، ولهذا السبب فشلت تجربة تحول المجتمع المفاجئ والثوري من إقطاعي إلى شيوعي، وأيضاً تفشل تجارب تحويل المجتمع من ريعي إلى سوق رأسمالي مطلق.
ولو تأملنا مراحل تطور الرأسمالية في المجتمعات البرجوازية كما يطلق عليها الشيوعيون، لوجدناها متشبعة بالدروس التي يجب أن نستفيد منها، فنجاحها جاء بسبب سياسة عدم قفز المراحل، وكان يصاحب التطور المتدرج ارتفاع درجات أبعاد التعليم والاستقرار السياسي والاقتصادي.
توهم الرأسماليون أنهم وصلوا إلى نهاية التاريخ، وأنهم عثروا على شفرة الانتقال إلى العالم الأول، وذلك فيما يُعرف بنظرية الصدمة بمدرسة شيكاغو الاقتصادية، كان فارسها «ميلتون فريدمان»، «دكتور اقتصاد في جامعة شيكاغو»، ونادى بممارسة الصدمة على الشعوب..
كان يؤمن بفكرة معالجة الاقتصاد عن طريق صدمة الشعوب عبر الكوارث، وذلك برفع يد الحكومات عن السيطرة على أسعار السوق، وظلت أفكار فريدمان محط للسخرية، إلى أن صعد ريغان وتاتشر في الثمانينيات إلى السلطة في كل من الولايات المتحدة وبريطانيا، وكانت التجربة الأولى من نصيب تشيلي كما عبر عنها بامتياز الفيلم الوثائقي عقيدة الصدمة للكاتبة ناعومى كلاين.
قام «بينوشيه» بتطبيق أفكار فريدمان، فأزال الدعم ورفع الرقابة عن الأسعار، وباع الشركات المملوكة للدولة، وأزال حواجز الاستيراد وخفض الإنفاق الحكومي، وأشاد فريدمان بتجربة تشيلي، التي تحولت عبر أفكاره من النظام الشيوعي إلى الرأسمالي بدون المرور في المراحل، وظهر فشل التجربة جليًا بعد عام واحد فقط، عندما بلغ التضخم 375 %، وهو أعلى معدل في التاريخ.
كانت الصدمة التالية في الأرجنتين.، في 24 مارس 1976 وقع انقلاب عسكري، لتصبح تجربة شيكاغو أو نظرية الصدمة جاهزة للتطبيق، وفي غضون عام من الانقلاب انخفضت الأجور بنسبة 40 %، وأغلقت المصانع و تفاقم القفر، تماماً مثلما حدث في تشيلي.
في مايو 2003، أمسك بول بريمر زمام سلطة الاحتلال في العراق، وبعد أسبوعين غير النظام الاقتصادي تماما، واعتمد نظام الصدمة، و أمضى الشهور الأربعة الأولى في تمرير قوانين مدرسة شيكاغو «الرأسمالية»، وكانت من أهم قراراته، فصل عشرات الآلاف من العاملين في الدولة، وتحول العراق من دولة ذات اقتصاد مزدهر إلى ركام من خراب ودمار.
أثبت نظام الصدمة فشله الذريع، بل أصبح بوابة للدخول إلى جهنم، وما توصي به بعض شركات الاستشارات بضرورة التخلي المفاجئ للحكومات عن أدوارهم الاقتصادية والتنظيمية هو أشبه بعملية الانتحار الجماعي للنجاحات التي تحققت، ولعوامل الاستقرار والأمن والمستقبل، وما أشبه الليلة بالبارحة، والله ولي التوفيق